وقفت الجزائر مع المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها في العام 1965م، بصلابة ورسوخ وسمو، وهذا ما يحصل دومًا عندما تلتقي ثورتان واعيتان جمعتهما قيم التضحية من المناضلين الفدائيين لأجل الشعب والوفاء له وتقديمه على أنفسهم وبهدف التحرير والنصر مهما طال الزمن.
وتواصل دور الجزائر الداعم للثورة الفلسطينية على مدار الأعوام فعملت على أن تكون داعمًا في المحافل العربية والدولية كلها، كما عملت على تبنّي الطرح والموقف الفلسطيني الموحّد من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، وثالثًا كان لها الدور العقلاني والميسّر لأي فعل فلسطيني في إطار انتهاج أي من السياسات التي يختارها الفلسطينيون.
لذلك رعت خلال المسيرة الطويلة للثورة الفلسطينية حلقات احتضان ولقاءات ومؤتمرات بين الفرقاء الفلسطينيين، وقدمت كل خبرتها الطويلة بالعمل الثوري، والثقة والتسهيل والتحريض على الوفاق، ومما يذكر في ذلك ما حصل بجميع اجتماعات المجالس الوطنية الفلسطينية التي عقدت بالجزائر، وأيضا ما يذكّرنا بالاتفاقيات الفلسطينية المسماة (اتفاقيات عدن-الجزائر) عام 1984م، حيث لعبت الجزائر دورًا عقلانيًا ومميزًا ومشهودًا في تحقيق الاتفاق بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، وجبهة الرفض والمعارضة آنذاك بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
لم تضع الجزائر نفسها يومًا مع طرف ضد طرف في الساحة الفلسطينية.
وإنما ظلت متمسكة بالإطار الشرعي أي منظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقًا بالدولة الفلسطينية أيضًا، التي كانت أول من اعترف بقيامها (15/11/1988م) بالجزائر باحتفال مهيب حضره الرئيسان الفلسطيني ياسر عرفات والجزائري الشاذلي بن جديد رحمهما الله.
أقول كل ذلك لأنه راعني بالفترة الأخيرة أن سيوفًا قد سُلّت، وحناجر قد صرخت بالافتراء، وخناجر قد استُلت لتطعن بمواقف الجزائرمن القضية الفلسطينية! وهؤلاء لم يدركوا معنى القول أن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة (قول الزعيم الشهيد هواري بومدين)، فهي ما كانت ولن تكون باعتقادنا مع أي جزء أو خط أو تشظي أو محور او جبهة فلسطينية منفصلة، فتكون بذلك مبتعدة عن الاجماع الوطني الفلسطيني.
إن هذه الفلسفة العقلانية والواعية والموقف الصلب جعل الجزائر مؤهلة دومًا لرعاية ودعم وتأييد فلسطين ككل، وعبر قناتها الرسمية أي منظمة التحرير الفلسطينية دون الالتفات لطبيعة الخلافات الفلسطينية التي آثرت عدم الخوض فيها وعدم الاصطفاف مع طرف فيها ضد آخر.
تفهم الجزائر أنه ما دامت فلسطين بتمثيلها معروفة فهي معه. ومادامت فلسطين التي فتحت لها الجزائر الصدر منذ العام 1964 بمكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، هي ذاتها الجزائر بسياستها وفهمها وفكرها الجمعي، فلا يلوم أحد إلا نفسه حين لا يفهم معنى الفلسفة الجزائرية الثابتة من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
يقول المثل العربي “أهل مكة أدرى بشعابها” وكأن الجزائر قد أعاد بناء هذا المثل وتطبيقه على الحال الفلسطينية فأهل فلسطين هم الأدرى بأحوالهم، والأحرى بهم الاتفاق ومتى ما اختلفوا فنحن الأخ المذكّر والداعم والمسهّل والميسّر لاتفاقهم بلا محاور ولا جبهات ولا اصطفافات.
عندما وقفت عديد الدول في اصطفاف مناويء لفلسطين، أي ضد منظمة التحرير الفلسطينية أو ضد ممثلها الزعيم ياسر عرفات سرعان ما انكشفت هذه الأنظمة وتعرّت. ولنا في الأنظمة السياسية الماضية في العراق وسوريا وليبيا خير دليل على ذلك، وهي كلها انحرفت في فهم المعادلة الفلسطينية وكيفية التعامل معها فارتكبت عديد الحماقات التي تكلّلت بالدم الفلسطيني، ومع ذلك احترقت أصابعها ولم تستطع أن تبني جبهات أو منظمة تحريرفلسطينية بديلة مناوئة لفلسطين والقيادة الرسمية. كما أن ادعائها بالثورية أو المقاومة أو الممانعة لم يكن في صالحها، وهي التي في مراحل عدة تخلت عن حلفائها في المحور الفلسطيني أيّ كان، وتركت المفجوعين الفلسطينيين وحدهم يبكون شهداءهم بلا دموع إضافية!
لم تترك الجزائر الفلسطينيين يعيشون في التيه الانشطاري والانقلابي والانقسامي منذ العام 2007 وإنما تواصلت في جهودها المشكورة-بالإضافة الى مصر ودول أخرى- والتي توجت (12/10/2022م) باتفاق الجزائر بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، وفصيل حماس والفصائل الأخرى (كان عدد الفصائل 14 فصيلًا)، وبحضور الرئيس عبدالمجيد تبون شخصيًا. ولا يعيب الوسيط الداعم والمؤتمن ألا ينضبط الشركاء من الفصائل الفلسطينية للاتفاق لأسباب لن نعرضها في هذا المقال تحتمل الأوجه.
خلال العامين الأسودين الكارثيين في قطاع غزة (2023-2025م) من الإبادة الجماعية والمقتلة الفاشية الصهيونية والنكبة الثانية (وصمود الشعب)، وقفت الدول الرصينة ومنها الجزائر الموقف الواضح في دعم دولة فلسطين، ودعم صمود الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة وكل فلسطين، وسارت على ذات الفلسفة العقلانية والداعمة والمؤيدة للحق الفلسطيني والميسّرة للتوافق مهما كانت درجات اختلاف المواقف بين الفلسطينيين فأهل القضية واجبهم كما تفهم الفلسفة الجزائرية أن يعودوا ويجلسوا ويتفقوا وليس في مصلحة الجزائر أن تكون لجزء وهي أبدًا كانت مع الكل.
وما كان من موقف الجزائر الأخير في مجلس الأمن من القرار بشأن غزة الا ضمن الاتفاق العالمي والعربي العام ومن ضمنه الفلسطيني، وبغض النظر عن الثغرات الكثيرة بالقرار فإنه بصيغته الأولى (خطة ال20 نقطة للرئيس ترمب) كان قد لقي الموافقة حتى من المعارضين اليوم لقرار مجلس الامن! وهذا من ذاك حرفيًا! لا خلاف بينها، وإنما الخلاف هو في تذبذب مواقف مَن وافق ثم رفض ما يدلل على هشاشة سياسية وعدم وضوح في النظر لصاحب ذات الجهة طوال فترة العدوان الصهيوني المدوي ضد أبناء فلسطين في غزة، بحيث عجز أصحاب الهشاشة السياسية عن رؤية المتغيرات الداهمة ووقفوا ينظرون شلال الدم دون أقل محاولة للتفكر أو النقد الذاتي أو المراجعة أو تقديم الإنساني على الغلو السلطاني.
في كلمة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون (22/11/2025م) في جوهانسبرغ خلال جلسة قمة مجموعة الـ20 تطرق رئيس الجمهورية إلى المذابح التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وكان العالم -مثلما قال– “شاهدًا عليها لمدة عامين متتاليين”، والتي “لا يمكن توصيفها سوى بإبادة ممنهجة مكتملة الأركان ضد الشعب الفلسطيني، وقفت الإنسانية عاجزة أمامها وأمام ما حدث من إجرام في حق المدنيين الأبرياء، ولم تستطع اجتماعات مجلس الأمن العديدة ولا الإدانات الدولية وقف هذا الدمار وهذه المجازر المروعة رغم مضي عامين على هذا التجويع والتقتيل الممنهجين”.
وقال أنه “الآن، وبصيص الأمل يراودنا في غد أفضل للشعب الفلسطيني، اسمحوا لي أن أشيد بالأدوار الكبيرة التي بذلها الأمين العام للأمم المتحدة والدول المحبة للسلام في سبيل وقف الإبادة في قطاع غزة”، على “المجهودات الحثيثة التي بذلوها والتي مكنت من وضع حد لهذه الإبادة الجماعية البائسة في حق الشعب الفلسطيني”. والى ذلك طالب دول العشرين بإعلان تعبئة عامة لبناء غد أفضل للشعب الفلسطيني تكون الجزائر جزء فاعل فيه.
نوجز القول ونختم أن المزاودة الممجوجة على الموقف الجزائري الثابت من القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية لن يصمد أمام صلابة العلاقة الطويلة التي نُسجت منذ انطلاقة الثورة والمقاومة الفلسطينية عام 1965، وتواصلت بذات الفلسفة العقلانية والداعمة والصلبة الأركان، وسيظل أصحاب المحاور يدورون حول محاورهم، وليس حول المركز الحقيقي وهو القضية والتلاقي المادي والروحي بين ثورتين عرفتا الطريق، وسارتا ومازالتا يدًا بيد وبإذن الله حتى التحرير، وعاشت الجزائر وعاشت فلسطين.






