فيلق القدس الإيراني والدور المفترض

حسن فحص

في التعريف بدور ومهمات قوات حرس الثورة الإسلامية الذي جاء في دستور الجمهورية الإيرانية، أن يتولى مهمة حراسة الثورة والنظام والدفاع عنهما أمام أعداء الداخل والخارج، أي إن المهمة الأساس المناطة به ترتبط بالحلقة المحلية أو الجغرافيا الإيرانية.

وبما أن التسمية الرسمية لهذه القوات جاءت مفتوحة وشمولية من خلال إسقاط الصفة أو الحصرية الإيرانية، واستبدالها بالإسلامية، يعني أن الثورة التي من الواجب الدفاع عنها أو التي تشكل صلب ومحور مهمات وواجبات هذه القوات، هو الدفاع عن أية ثورة تحصل في العالم الإسلامي أو أي حراك يهدف إلى إقامة دولة تتبنى القراءة الإسلامية للدولة والحكم والسلطة.

هذه المهمة التي تجد مسوغها في النص الدستوري الذي نص على أن النظام الإسلامي في إيران أو الجمهورية الإسلامية “تدافع عن المستضعفين في العالم”، وبالتالي فإن هذا البعد في عالمية الهوية للثورة الإسلامية في إيران، اعتمد في بدايته على مقولة الزعيم المؤسس للنظام وقائد الثورة آية الله الخميني حول “تصدير الثورة” لمساعدة الآخرين في إقامة النظام الإسلامي أو الانقلاب على الأنظمة القائمة في بلدانهم.

ومع تراجع الحديث عن “تصدير الثورة”، المفهوم الذي تحول إلى مصدر توتر وأزمات مع الخارج، بخاصة مع الدول المحيطة بإيران التي تشكل الحلقة الثانية في مفهوم النفوذ الجيوسياسي، كان لا بد من الانتقال إلى مستوى مختلف وآليات جديدة في ترجمة طموحات النظام الإسلامي خارج حدوده الجغرافية، من أجل رسم مجال نفوذه الجيوسياسي في محيطه وفي المعادلات الإقليمية والدولية.

هذه التحولات في خطاب تصدير الثورة، فرضت على الحكم والسلطة في إيران اتخاذ خطوات تخدم هذا الهدف الاستراتيجي، وكانت ترجمتها بإنهاء نشاط وعمل “مكتب حركات التحرر” الذي كان يعمل على هامش قوات الحرس، ونقل العلاقة مع الجماعات والتنظيمات الموالية أو المرتبطة بإيران بصفتها ثورة إسلامية إلى وزارة الخارجية والقنوات الرسمية والسياسية، من أجل فرض مزيد من الرقابة عليها أو قطع الطريق على أي عمل أو تحرك قد يؤثر سلباً في السياسات الإيرانية ويتعارض معها.

وانطلاقاً من هذه المتغيرات، التي برزت بوضوح بعد رحيل المؤسس، تراجع مستوى العلاقة التي تربط إيران بكثير من حركات التحرر العالمية، كحركة البوليساريو وحركة التحرير الساندينية بقيادة دانيال أورتيغا في نيكاراغوا وحركة تحرير إريتريا وغيرها، فضلاً عن محاصرة وإنهاء نشاط الحركات الإسلامية المنتمية إلى الدول الخليجية.

في المقابل جرى تعزيز العلاقة بين النظام الإسلامي و”حزب الله” في لبنان باعتباره ابناً شرعياً للثورة من الناحية العقائدية ولالتزامه بولاية الفقيه، في حين تعززت العلاقة مع بعض الفصائل الإسلامية العراقية على خلفية الحرب ضد النظام العراقي ومشاركتهم إلى الجانب الإيراني وحاجتهم إلى امتلاك ورقة في مواجهة بغداد، وأسهم الانتماء المذهبي لدى جماعة “حزب الله” والفصائل العراقية في تعميق هذه العلاقة.

أما العلاقة مع الفصائل الفلسطينية، سواء حركة فتح أو حركتي الجهاد الإسلامي و”حماس” وغيرها كالجبهة الشعبية وفتح الانتفاضة، فكانت تنطلق من بعدين، الأول هو الحاجة الإيرانية إلى الحضور والنشاط على الساحة الفلسطينية باعتبارها القضية الأساس للعالمين الإسلامي والعربي اللذين يشكلان الهدف الجيوسياسي والجيواستراتيجي للنفوذ الإيراني، وأن هذه القضية تعطي شرعية دينية وسياسية للنفوذ الإقليمي. والبعد الثاني مدى معارضة هذه القوى لعملية السلام أو أية تسوية للقضية الفلسطينية، وهو البعد الذي تلبور لاحقاً بإعلان العداء والمعارضة لاتفاق السلام في أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، إلى الحد الذي دفع المرشد الأعلى علي خامنئي لوصف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بأنه “عميل وخائن” للقضية وفلسطين.

وفي وقت كانت أجهزة النظام السياسية والأمنية تعمل على تعميق العلاقة الناشئة بين طهران وجماعة الحوثي في اليمن، والعمل على تمتين وتعزيز العلاقة مع حكم الإخوان المسلمين في السودان بقيادة عمر البشير، كانت العلاقات الإيرانية مع النظام السوري تتطور وتنتقل إلى مستويات أكثر عمقاً وتحالفاً، بخاصة بعد عام 1993 واتفاق أوسلو، باعتبارهما متضررين من مسار السلام الذي سمح لإسرائيل بأن يكون لها ثلاث محطات أساسية، فلسطينية في أوسلو، وأردنية في اتفاق وادي عربة، وقبلهما اتفاق كامب ديفيد مع مصر.

أمام هذه التحولات، بزرت أمام صانع القرار الإيراني ضرورة إيجاد إطار يتولى مهمة التواصل والتعامل مع هذه الجماعات والأطراف، على اعتبار أن الدبلوماسية الرسمية للدولة لن تكون الجهة المؤهلة للقيام بهذا الدور. وهنا كان لا بد من العودة لقوات حرس الثورة، لأن طبيعة هذه المهمة تنسجم مع طبيعة هوية العالمية والشمولية والإسلامية. فكانت خطوة توسيع مهمات مقر القدس في الحرس الذي كان ينشط على الساحة العراقية خلال الحرب مع بغداد، باعتباره التشكيل الأكثر تأهيلاً للعب هذا الدور.

وليس خافياً على أي متابع دور هذا المقر الذي أصبح يحمل اسم فيلق القدس أو قوة القدس، والنشاط والأعمال التي قام بها في المجال الحيوي للنفوذ الإقليمي للنظام الإيراني في الشرق الأوسط، وتوسع ليشمل كامل منطقة غرب آسيا من شبه الجزيرة الهندية وصولاً إلى القرن الأفريقي.

ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، تحول فيلق القدس إلى مركز الثقل في المشروع الجيوسياسي والجيواستراتيجي للنظام الإيراني، وألقت على عاتقه حراسة “العمق الاستراتيجي” للنظام والثورة الإسلاميين في غرب آسيا. وأسهمت التطورات التي شهدتها هذه المنطقة، من احتلال افغانستان عام 2001 إلى احتلال العراق عام 2003 في إبراز أهمية هذا الدور، والمهمة التي جعلت من قاسم سليماني الشخصية المحورية ومركز الاهتمام بعد توليه قيادة هذا الفيلق عام 1997. فتحول إلى الشخصية الممسكة بالقرار السياسي والدبلوماسي لإيران ونظامها على امتداد هذه المنطقة، نتيجة المهمة التي لعبها في حياكة الدور الإيراني في مواجهة الوجود والسيطرة الأميركية، إضافة إلى العمل من أجل إضعاف الدور والنفوذ الإسرائيلي وقطع الطريق عليه من التمدد على حساب الدور والنفوذ الإيراني.

وجاءت الأحداث العراقية ومن بعدها حرب تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، وتالياً الأحداث السورية وظهور التنظمات الإرهابية، لتجعل من فيلق أو قوة القدس رأس الحربة في الحفاظ على المكاسب والمصالح الإيرانية الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تؤلف وتشكل العمق الاستراتيجي لطهران.

نقلاً عن “إندبندنت عربية”

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً