تتزايد في الآونة الأخيرة اللقاءات، والكتابات، والنقاشات في مسألة إعادة الإعمار في قطاع غزة، وبالرغم من أن هذا الحراك يعدُّ شرعيًا وضروريًا حرصًا على مستقبل شعبنا في القطاع، الذي عانى وما يزال يعاني من عدوان احتلالي وحشي يمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فإنه من المناسب أن يتم الأخذ بعين الاعتبار أن العدوان الدموي ما زال مستمرًا، وأن هناك مخططًا واضحًا لدى نتنياهو وحكومته الفاشية بشأن ما يسمى بـ«اليوم التالي»، والذي يتضمن تشكيل إدارة مدنية، وضم أجزاء من القطاع، وإعادة الاستيطان في الشمال، وتقسيم القطاع إلى ثلاثة أجزاء.
إن الحديث عن إعادة إعمار القطاع لا يمكن أن يكون مفيدًا دون فهم السياق السياسي، إذ يرفض نتنياهو كلا من «حماسستان» و«فتحستان» لإدارة شؤون الحكم في غزة، ويرغب في إعادة إنتاج الاحتلال من خلال إدارة مدنية تشكل استنساخًا لرابطات القرى، وتوجد مقترحات متعددة تحاول الإجابة عن سؤال «اليوم التالي»، منها مقترحات إقليمية ودولية وأمريكية، لكنها ما زالت مرفوضة من قبل نتنياهو.
إن عودة السلطة إلى القطاع أو تشكيل لجنة فنية ذات طبيعة مهنية وتقنية مصادق عليها من السلطة ما زالت مرفوضة من نتنياهو، الذي يريد الاستمرار بالعدوان وتنفيذ مخطط التطهير العرقي الذي يتضمن مخاطر التهجير الطوعي أو القسري من خلال جعل القطاع مكانًا غير ملائم للعيش، ولعل المدخل الأنسب لقطع الطريق أمام مخطط نتنياهو ومحاولات فصل القطاع عن الضفة يكمن في تشكيل حكومة توافق وطني تنفيذًا لإعلان بكين، لا ضير من تشكيل لجنة مهنية فنية متخصصة، ولكن في إطار المنظومة السياسية الفلسطينية الموحدة، وليس بالانفصال عنها.
إن مسألة إعادة الإعمار هي مسألة سياسية أساسًا، وليست فنية أو تقنية فقط، رغم أهمية البعد الفني والتقني فيها، ومن المهم تجاوز التفكير النمطي بخصوص إعادة الإعمار في قطاع غزة، إذ إن ما يمر به القطاع يفوق بمراحل ما تعرض له في عمليات العدوان السابقة، الأمر الذي يتطلب آليات تفكير جديدة تبدأ من اليوم الحالي، وذلك قبل الحديث عن «اليوم التالي» بخصوص عمليات الإعمار.
أرى أن المدخل يكمن في إعادة تنظيم الحالة الميدانية بالقطاع عبر تأسيس إطار يضم كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والعمل على إعادة إنتاج البعد الشعبي عبر إحياء لجان العمل الطوعي، وأن تشكيل هذا الإطار سيساهم في العمل على تأمين المساعدات لمستحقيها، ومنع الاحتقانات والتوترات الاجتماعية، ومناهضة تجار الحرب وغلاء الأسعار والاستغلال، بما يساهم في وحدة النسيج الاجتماعي ويفشل جهود الاحتلال في تشكيل إدارة مدنية.
إن هذا الإطار الميداني الوحدوي يمكن أن يشكل عنوانًا لشعبنا، وكذلك للعلاقة مع قوى التضامن الشعبي الدولي، بما يعزز من التمويل التضامني ودعم صمود شعبنا، وعليه، يجب وضع مسألتي الإغاثة والإعمار في السياق الوطني الذي يعزز مقومات الصمود ومقاومة مخططات الاحتلال بالطرق الشعبية.
إن حجم الدمار الهائل للبنية التحتية والمنازل والمستشفيات والجامعات والمدارس ومحطات المياه والطرقات يتطلب اعتماد مفهوم «إعادة البناء» كمفهوم أوسع من «إعادة الإعمار»، خاصة إذا أدركنا أنه تم تدمير أكثر من 70% من المباني، ووضع عمليات الإغاثة والإعمار في السياق الوطني والتحرري يتطلب إعادة التفكير بآليات العمل، ومنه رفض آلية الرقابة التي كانت سائدة قبل العدوان الأخير، كما يتطلب البحث عن خيارات تمويلية وخبراتية أوسع، مثل التوجه للصين والبنك الآسيوي وائتلاف شنغهاي ومجموعة بريكس ومجموعة الـ77، وتعزيز الروابط مع بلدان الجنوب في مواجهة عولمة الشمال الاستعمارية.
وعليه، فإن عملية إعادة الإعمار (أو البناء) ترتبط بصورة وثيقة مع الآفاق السياسية، التي تتطلب العمل على إفشال مخطط «اليوم التالي» لنتنياهو وحكومته الفاشية، وذلك عبر تعزيز مقومات الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتي من الممكن أن تبدأ بتشكيل الإطار الميداني الموحد.