“في زمن بن غفير: تُصفّد الكرامة ويُعدَم الضمير”

د. منى أبو حمدية *

في مشهدٍ يجسّد انحدار القيم الإنسانية وتوحّش السلطة، نشر وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير مقطعاً مصوراً يُظهر أسرى فلسطينيين مكبّلين بالأصفاد، يفترشون الأرض بأجسادٍ مرهقة ووجوهٍ مثقلة بالغبار والمهانة، بينما يقف الوزير شامخاً متباهياً قائلاً: «هكذا نعاملهم، وبقي علينا فقط إعدامهم».

هكذا يُختصر المشهد السياسي الإسرائيلي في زمن بن غفير: حيث تُصفّد الكرامة ويُعدَم الضمير، ويُقدَّم الإذلال كسياسة، والتنكيل كعنوانٍ للأمن، والوحشية كقيمةٍ وطنيةٍ جديدة.

 

مشهدٌ يتجاوز الصدمة: حين تصبح الإهانة منهجاً
لا تكمن خطورة المقطع في صورته فقط، بل في رمزيته وموقعه السياسي؛ إذ يصدر عن وزيرٍ في الحكومة، مسؤولٍ عن إدارة السجون. فحين يوثّق صاحب القرار فعله ويعرضه للعالم، فإنّنا أمام سياسةٍ رسميةٍ للإذلال، لا تصرفٍ فرديٍّ طائش.

إظهار الأسرى مكبّلين على الأرض ليس سوى رسالة متعمّدة لتكريس صورة الفلسطيني كمهزومٍ بلا حقّ ولا كرامة، ولتعزيز الخطاب القومي المتطرّف القائم على الإلغاء لا على التعايش.

هذا الفعل، من منظور القانون الدولي الإنساني، يشكّل انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف التي تضمن معاملة الأسرى بكرامة، وتحظر التشهير أو إذلالهم أو تصويرهم في أوضاع مهينة.

 

من التنكيل إلى التحريض: “لغة تُشَرْعِنْ الجريمة”
عبارة بن غفير: «بقي علينا فقط إعدامهم» ليست مجرّد انفعال لفظي، بل تحريض علني على القتل خارج إطار القانون، يعيد إلى الأذهان أكثر مراحل التاريخ ظلاماً ، حيث تُلغى العدالة باسم الانتقام.

إنّ تحويل الأسرى إلى مادةٍ سياسيةٍ ودعائيةٍ يعكس خللاً أخلاقيا عميقاً في بنية السلطة الإسرائيلية التي باتت تتغذّى من خطاب الكراهية. فالمعتقل في القانون الإنساني ليس عدواً ميتاً مؤجلاً، بل إنسانٌ له حقوقٌ تكفلها المواثيق والضمائر.

والمفارقة أن الدعوة إلى الإعدام تصدر في دولةٍ تدّعي الديمقراطية وتستمدّ شرعيتها من «سيادة القانون»، في حين أنّ الوزير ذاته يقف فوق القانون، مُلغياً فكرته وجوهره.

 

 جرائم الاحتلال بحق الأسرى: سياسة ممنهجة لا حالات معزولة
لا يمكن قراءة هذا الحدث بمعزل عن سلسلة طويلة من الانتهاكات داخل السجون الإسرائيلية:

●        الاعتقال الإداري دون تهمة أو محاكمة، الذي يُمارَس على آلاف الفلسطينيين.

●        التعذيب الجسدي والنفسي، وسوء المعاملة، والعزل الانفرادي، وحرمان الأسرى من العلاج والتعليم والزيارة.

●        تسريب تقارير توثّق تعذيباً ممنهجاً، واعتداءاتٍ جسيمة، وصلت حدَّ القتل تحت التعذيب في بعض الحالات.

كلّ ذلك يشكّل نمطاً منظماً من العقوبات الجماعية التي تُمارس بحقّ الفلسطينيين، مخالفةً للمادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر المعاقبة الجماعية لأيّ شعبٍ واقعٍ تحت الاحتلال.

 

 بن غفير وحكومة التطرف: حين تتحوّل السلطة إلى أداة انتقام
يشكّل بن غفير صورةً مكثّفةً للتطرّف الذي تسلّل إلى مؤسسات الحكم الإسرائيلية. فهو لا يكتفي بخرق القانون، بل يجعل من خرقه شعاراً سياسياً.

إنّ حكومة تتباهى بالإذلال تُعلن عمليا نهاية مفهوم الدولة القانونية، وتؤسس لشرعية العنف والإفلات من العقاب.

وحين يُروَّج للتعذيب بوصفه ( ردعاً) وللقسوة بوصفها ( أمناً ) تتحول العدالة إلى أداةٍ للبطش، ويُستبدَل الضمير الإنساني بآلة سلطوية تشرعن القهر وتغذّي الكراهية.

 

مناشدة إلى العالم: إنقاذ ما تبقّى من إنسانيتنا
أمام هذا المشهد الذي يُجرِّد الإنسان من كرامته ويُعلّق العدالة على مشهد الإذلال، تتوجّه هذه المقالة بنداءٍ إلى:

●        الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان لفتح تحقيقٍ دوليٍّ عاجل في انتهاكات الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين.

●        اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمطالبة إسرائيل بوقف الانتهاكات وإتاحة الزيارات الإنسانية والطبية للمعتقلين.

●        المنظمات القانونية والإنسانية كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لتوثيق الجريمة وملاحقة المسؤولين عنها في المحاكم الدولية.

●        المجتمع الدولي بأن لا يصمت أمام العار؛ فالصمت على الظلم مشاركةٌ فيه، والحياد أمام الجريمة تواطؤٌ باردٌ يقتل الضحية مرتين.

 

وفي الختام؛ في زمنٍ تُقيَّد فيه الأيدي وتُكسر الأقلام، تظلّ الكرامة الفلسطينية آخر الأسوار التي لم تُهزم.

فإن كان بن غفير ومن معه يفاخرون بالأصفاد، فإنّ التاريخ سيفكّ قيود الذاكرة ويكتب الحقيقة من جديد:

أنّ من صفّدوا الأجساد، لم يقدروا على تقييد الروح.

وأنّ من أعدموا الضمير، تركوا لنا واجب إحيائه في وجه هذا الظلام.

إنّ ما جرى لا يمكن اعتباره حادثة عابرة أو تجاوزا فردياً، بل هو جرحٌ مفتوح في ضمير الإنسانية جمعاء. إنّ تصوير الأسرى الفلسطينيين وهم مكبّلون، والتفاخر بإذلالهم، ليس مجرّد انتهاكٍ للقانون الدولي، بل نكوصٌ عن أبسط معاني الإنسانية.

ومن هنا، فإنّنا نطالب المجتمع الدولي، ومؤسسات العدالة، والمنظمات الحقوقية بأن تتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية في ملاحقة كل من يحرّض على القتل أو يمارس الإهانة بحقّ الإنسان الفلسطيني.

فإنّ الصمت على الجريمة جريمةٌ أخرى، وإنّ الدفاع عن الكرامة ليس انحيازاً سياسياً ، بل هو انتماءٌ فطريّ إلى جوهر الإنسان.

*  أكاديمية وباحثة في الشأن الفلسطيني