في غزة ما عاد للألوان وجودٌ سوى الأحمر المقتحم والأسود الفاحم،
وفيها نَسَت الشمسُ مواعيد أشعتها،
وسال الدمعُ من عيون الأطيار مدرارًا.
في غزة ومنذ عام جبّار احتجب القمر ملتفًا بالغيوم المشتعلة بالنار.
وفيها وكل فلسطين خارت قوى النور واستبدت الظلمة بالناس،
فلا ابتسامة تضيء ولا تصفيفة شعر جميلة،
ولا تلويحة يد، أو تربيتة كتف.
ولا زيارة للمدرسة القديمة، ولا ندوة بأركان المكان، ولا شارع للنزهة أو الثرثرة.
ولا أقلام تلوّن جدار حائط منزل جيراننا…
فلا جدار ولا جيران ولا أصابع تجرؤ على التلوين.
في غزة افتقدنا ثغاء الأغنام وصياح الديكة وصهيل الخيول وفسحة عدّ النجوم في سماء فلسطين الحافية.
وما عاد هناك محل فلافل واقفًا على قدميه، ولا قصة حب كُتبت منذ عام دهريّ، ولا أيدي متشابكة الا في صلوات الجنازات التي لا تنتهي.
في غزة ثار الحنين لآذان سيدي محمد في الجامع القديم فجر أيامنا التي محيت من السجل المدني!
افتقدنا رائحة الياسمين والنرجس والورد والبحر الكفيف،
وهناك اليوم لا إناء نظيف للاغتسال، ولا طعم الا ما تبقى من مذاق آخر وجبة مرّت على حلوقنا منذ عام مجنون.
وفي غزة تكدّست ضحكات أبي في السماء السابعة مع يد أمي الحنونة تداعب خصلات شعري، وكثير من القُبلات المحلقة معها هناك بالبعيد.
في غزة ومع مرارة الماء المالح أصلًا فقدنا طعم الليالي الساهرة المارقة كالبرق، ونار المدفأة والحلقات المرِحة،
وأنكرنا لون الأشجار الخضراء الفاتن، والرمل الجميل الأصفر، وخشونة أبواب البيوت ومرح الدبكة وبهجة فتياتها واليرغول.
وفيها وكل فلسطين نسينا معنى عبث الاطفال وصرخاتهم يتراكضون بوجوه ملؤها البشر والطلاقة وغموض الأيام القادمة.
في غزة مازلنا نراكم أكوام ذكريات الفقد والموت والعمى والضباب والانسداد.
وهناك نكنس عبث الأيام القاتلة لتعود لنا حطامًا لا ينتهي كل يوم.
وهناك نحاول جمع أشلاء ذكريات كل من فاتتنا أيامهم الأخيرة، ونصُفّ لهم قوارير الأزهار حول شرفة بيتنا المهدم…
ونصعد حيث يتحلقون حول قرص الشمس كل يوم مع كثير من الصبر والأمل.
في غزة وفلسطين ثم لبنان الشقيق منذ أسابيع فقدنا بهجة الكلام الحلو، والأغاني الهادئة، ورخاء الخروج من البيت دون خوف كما فقدنا ثراء التفكير باليوم القادم.