في قلب غزة، حيث تلتقي السماء بالألم، تنهمر الأمطار، وتغرق الأرض في بحر من الحزن، تتوالى الأخبار بكل ما تحمله من معاناة غير مرئية. غزة، المدينة التي طالما حملت معها ذكريات التضحية والصمود، تتعرض اليوم لظروف تزداد قسوة يوماً بعد يوم، تتوالى المعارك على جبهات متعددة، ليس أقلها معركة الحياة اليومية. هنا في غزة، أصبح الخبز أغلى من الموت، وأصبحت قيمة الحياة تساوي بقاء لحظة من الأمل في وجه العتمة.
منذ سنوات طويلة، غزت غزة العديد من الأزمات، كانت تداعيات الحروب المتواصلة، القيود الاقتصادية الصارمة، والحصار المستمر من أكثر العوامل التي جعلت من عيش الشعب الفلسطيني في غزة كابوسًا دائمًا. يعيش أهل غزة في ظل وضع اقتصادي مزري؛ فلا كهرباء تكفي، ولا مياه عذبة متوفرة، بل حتى الهواء الذي يتنفسونه أصبح محملاً بالألم.
ومع تلك الظروف، لم يعد يقتصر العيش على مجرد البقاء على قيد الحياة، بل تحول الأمر إلى معركة يومية من أجل لقمة العيش. أصبح الخبز في غزة رمزًا ليس فقط للجوع، بل لشعور عميق بالعجز والحاجة التي لا تنتهي. بعض العائلات، إن كانت محظوظة بما يكفي، تجد نفسها في صراع للحصول على هذا الخبز، فتبدأ رحلة البحث الطويلة في الأسواق، التي أضحت ترفع الأسعار كما لو أن الحياة نفسها أصبحت سلعة تباع وتشترى.
الأسواق الممتلئة بالحاجة، والوجوه التي باتت تبحث عن الكفاف، لا تميز بين الفقراء والأغنياء. الكل يعاني، الكل يلهث وراء رغيف خبز، وفي أحيان كثيرة، يصبح هذا الرغيف أغلى من حياتهم. المساعدات الإنسانية، التي كانت تعين بعض الأسر على الصمود، باتت تتقلص شيئًا فشيئًا، لتزيد الفجوة بين من يمتلك القليل ومن لا يمتلك شيئًا.
أزمة الخبز في غزة ليست مجرد أزمة غذائية، بل هي أزمة إنسانية، أبعادها تتعدى حاجات الناس الأساسية. إنها أزمة تثير الأسئلة حول العدالة الاجتماعية، حول مفهوم الإنسانية في أوقات الحروب، حول مستقبل شعب يكاد يظل يقاوم بكل ما أوتي من قوة للبقاء. كيف يمكن للإنسان أن يقاوم الاحتلال والفقر والظروف الصعبة دون أن يتمكن حتى من ضمان الخبز؟ كيف يمكن للروح أن تتحمل هذا العبء؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لا تكمن في الكلمات فقط، بل في الصمود العظيم الذي يظهره الشعب الفلسطيني في غزة.
مع كل يوم يمر، يصبح من الواضح أن معركة الخبز أصبحت بمثابة معركة الحياة نفسها. في غزة، لا يكتفي الناس بالصمود أمام الخوف والموت؛ بل أصبحوا يتصدون للجوع والحاجة، مما يثبت أنهم لن يتراجعوا، ولن يرضخوا للظروف التي تحاول سحقهم. الكرامة لا تأتي من الخبز وحده، بل من عزة النفس والإصرار على البقاء.
لكن ماذا يحدث حين يصبح الإنسان في غزة مضطراً للاختيار بين الحياة والموت؟ حين يصبح الخبز أغلى من الموت، فذلك هو عندما لا يبقى أمامك سوى خيار واحد: أن تبقى على قيد الحياة بأي ثمن كان، رغم كل ما يعترض طريقك. في غزة، لا يُختار الموت في أي لحظة، بل يُختار الحياة رغم الظروف القاسية، حياة يحاول فيها كل فرد أن يتشبث بأمل ما. ولكن أليس هذا التشبث هو جوهر مقاومة غزة الحقيقية؟ أليس هو معنى أن يبقى الإنسان على قيد الحياة في وجه كل ما يتعرض له؟
غزة، هذه المدينة التي تحمل في جوفها كل أنواع الصراع، من الحرب إلى الجوع، من الموت إلى الحياة، تبقى صامدة، تجدد نفسها يومًا بعد يوم. فعندما يصبح الخبز أغلى من الموت، لا يكون سوى شهادة على عظمة هذا الشعب الذي يرفض الانكسار.