في مثل يوم أمس، في التاسع من آب ١٩٤٥، شهدت مدينة ناغازاكي حدثا مأساوياً سيظل محفورا في ذاكرة البشرية جمعاء، فقد فقدت المدينة نحو ٧٠ الف شخص قتلوا لحظة جريمة القصف الذري الذي نفذته الولايات المتحدة بالقائها القنبلة الذرية الأولى بالتاريخ.
اليوم وبعد مرور ٧٩ عاما على هذه الجريمة المروعة، يستمر سكان المدينة اليابانيين في فقدان أحبائهم بسبب التعرض للإشعاع النووي، ويستمر أحفادهم ببناء مجتمع العلم والتطور والتميز. هذا العام وحده أضيف ٣ الآف أسم جديد إلى النصب التذكاري لضحايا تلك الجريمة، في تذكير دائم بأن الجروح التي خلفتها هذه الكارثة لم تلتئم بعد.
هذه الذكرى لواحدة من جرائم الولايات المتحدة في تاريخ البشرية المعاصر ليست مجرد تذكير بالماضي، بل هي أيضا رسالة قوية بضرورة إحلال السلام والأمن الدوليين، والحاجة الماسة لتوقف جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية، وضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل، يتم إرسالها للعالم كل عام من قلب هذه المدينة التي يعود تاريخ تأسيسها لمئة وخمسين عاما.
هذا العام، رافق هذه الذكرى وهذه الرسالة المرجوة من برنامج إحيائها جدل دبلوماسي، عندما قرر عمدة مدينة ناغازاكي بجرأة عدم دعوة السفير الإسرائيلي لدى اليابان لحضور المراسم المعتادة سنويا، مما أدى إلى مقاطعة ست دول غربية، جميعها من مجموعة الدول السبع، في موقف مُعيب يعكس ازدواجية المعايير التي تتبناها هذه الدول بالغرب الاستعماري المنافق، التي تدعي الحرص على السلام والأمن، حيث تغض الطرف عن جرائم الإبادة التي تُرتكب في غزة التي يعود تاريخ بنائها الأول الى ٣ الآف عام قبل الميلاد، بذريعة “الأمن وحق الدفاع عن النفس” لمن استوطنوا غصباً وحديثا في أرض فلسطين وشردوا أهلها الأصليين قسراً منذ جريمة النكبة الأولى غير المنتهية حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن تلك الجريمة على مدينة ناغازاكي التي لأسمها من أحرف مدينة غزة نصيب، قد استُخدم فيها سلاح نووي أباد عشرات الآلاف في لحظة واحدة ومئات الآلاف لاحقا، فإن ما يحدث الآن ومنذ عشرة أشهر بل ومنذ تاريخ الاحتلال لقطاع غزة ليس أقل ترويعا، فما أُلقي من قنابل وصواريخ من طائرات الاحتلال على غزة تفوق قدرته التدميرية القنبلة الذرية التي القتها الولايات المتحدة ضد الشعب الياباني، ويفوق من جانب اخر ما دمرته النازية من مدن، فعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ينفذها الأحتلال الاستعماري الإسرائيلي على غزة، التي أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من ٤٠ الفاً معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة أكثر من ١٠٠ الف آخرين بجروح خطيرة واعاقات ستبقى ترافقهم مدى حياتهم في مزيد من العذاب، ولم تُبق غزة مكانا صالحا للحياة، تعيد إلى الأذهان تلك الوحشية التي شهدها العالم في ناغازاكي وهيروشيما آنذاك، وأعمال تطهير عرقي وجراىم أخرى في هذا العالم، ارتكبتها الولايات المتحدة في لاوس، وفيتنام، واليونان، والفلبين، ولبنان، وأمريكيا اللاتينية، والعراق، والصومال، واليمن، وأفغانستان ودول البلقان.
الفارق هنا هو أن الإبادة الجارية في غزة تُنفذ على مدى طويل برؤية كولونيالية وحشية، حيث يعاني السكان من القصف المستمر، والحصار، والقتل ، والتجويع واغتصاب الأسرى واغتيالهم والحرمان من الاحتياجات الأساسية، فما يحدث اليوم في غزة هو محاولة ممنهجة لإبادة جماعية وتطهير عرقي، وهو ما أكدته العديد من الهيئات الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية بما فيها منظمات يهودية مناهضة للحركة الصهيونية، الى جانب محكمة العدل الدولية، التي اعتبرت هذا العدوان انتهاكا صارخا للقانون الدولي وجريمة ضد الإنسانية.
ولكن الولايات المتحدة التي قامت بعد أربع سنوات من تاريخ تلك الجريمة في ناغازاكي بالاعتراف بإقامة دولة اسرائيل على جزء من أرض فلسطين التاريخية، لتمتد وتصبح اليوم فوق أرضنا كلها بدعم أمريكي متواصل .
وبدلًا من ان تقوم بالضغط على إسرائيل لوقف هذا العدوان، تتماهى مع ممارسات الاحتلال الاستعماري وتختار إقناعها بالحسنى والكلمة الطيبة. إدارة بايدن، التي تجنبت بالطبع حتى الآن فرض أي عقوبات أو ممارسة ضغوط جادة على إسرائيل، ترسل قواتها وبوارجها وطائراتها لمنطقتنا تحت مبرر حماية إسرائيل، التي تتحدث اليوم عن تهديدات جديدة باجتياحات ضد مدن القطاع والضفة الغربية، وعن ضربات استباقية ضد إيران ولبنان وسوريا واليمن، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويهدد باستمرار تنفيذ مسلسل الإرهاب الفاشي الإسرائيلي في محاولة متسارعة اليوم لتنفيذ مخططات ورؤية الحركة الصهيونية والمسيانية في تهجير أبناء شعبنا، وإقامة مملكة يهودا واستمرار الحرب والإبقاء على الاحتلال وفق ما يرسمه نتنياهو في عقله المريض كمجرم حرب، ينتظر صدور طلب محكمة الجنايات الدولية بتوقيفه من جهة، وبتنفيذ الولايات المتحدة رؤيتها الاستعمارية الحديثة حول الشرق الاوسط، في وقت ما زال البعض من العرب والعجم يلهثون خلف وعود سرابها وأطماعها.
وأكثر من ذلك، فإن الولايات المتحدة تعمل على إخراج إسرائيل من عزلتها الدولية لقيادة مشروعها حول الشرق الاوسط بمزيد من استكمال الحروب ضد أي فكر وثقافة ممانعة لمشاريعها، ومعاداة المنظمات الدولية ومناهضة محكمتي الجنائية والعدل الدوليتين، وتهديد دول مختلفة حول العالم تدعو إلى احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان والقرارات الدولية. هذه السياسة الأميركية لا تساهم فقط في استمرار المعاناة الإنسانية في غزة ولكل شعبنا الفلسطيني، بل تضع العالم على مسار تصعيد خطير قد يؤدي إلى اندلاع صراع دولي واسع النطاق.
في سياق التصعيد المستمر في الشرق الأوسط الذي تغذيه دولة الاحتلال بكافة الوسائل، قبل وبعد عمليات الاغتيال الأخيرة، إلى جانب ما تقوده الولايات المتحدة في أوكرانيا من حرب بالوكالة ضد روسيا، وفي تايوان وبحرها ضد الصين، وفي فنزويلا وكينيا ضد إرادة شعوبها، نجد أن العالم يتجه نحو حافة هاوية قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة. هذه الحرب، إذا ما وقعت، ستكون كارثة لا يمكن لأحد أن يتخيل حجمها، وستجلب معها دماراً شاملًا للبشرية، يفوق بكثير ما شهدته ناغازاكي وغزة.
ذكرى ناغازاكي وحاضر غزة، يجب أن تُذكر البشرية دائما وتكون جرساً يُقرع بأن الحرب بأي شكل من الأشكال ليست حلاً، بل هي طريق نحو الدمار، وهي طريق لمزيد من الظلم والاضطهاد والقهر، خاصة لمعذبي الأرض والمهمشين والفقراء ومنهم شعبنا الفلسطيني.
على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته وأن يعمل على إيقاف عدوان الإبادة الإسرائيلي على غزة فورا، وفي كل مدن فلسطين ومخيماتها، وحماية شعبنا حتى تمكينه من إنهاء الاحتلال، والوصول الى حق تقرير المصير والحرية والعدالة لشعبنا، في وقت لا يسمع نتنياهو فيه إلا أصوات أبواق المتطرفين الاسرائيليين الداعية للقتل والدمار والدعوات المسيانية، في ظرف ينحدر مجتمعهم أكثر نحو مظاهر الفاشية الدينية، لأن استمرار ذلك يعني فتح الباب أمام فصول جديدة من الكوارث الإنسانية ،التي لا يعلم أحد إلى أين قد تقود العالم، بعد أن قتلوا هم ورعاتهم وشركاؤهم كل فرص السلام التي كانت مفترضة، ومنها الخيار الأممي لحل الدولتين.