قراءات فلسفية وأنثروبولوجية في مقصديّة الزواج:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

التحدّي الفلسفي والأخلاقي يفرض علينا قراءة فكرة الزواج لأجل الإنجاب التي هي ليست مجرد تركيب لغويٍّ وصفّي؛ إنها صيغة مفهومية تختزل رؤيةً للعلاقة الزوجية بوصفها آلية إنتاجية أولى — بيولوجيّاً واجتماعيّاً — لبقاء الجنس والجماعة. لكن هذه الصيغة تحمل في طيّاتها أيضاً مساءلات عن معنى الإنسان، وعن العلاقة بين الجسد والوجود، وبين الاختيار والضرورة. لذا لا يكفي المقاربة النفعية أو الفقهية وحدها؛ بل يستلزم المسار تأملاً فلسفياً ونقداً أنثروبولوجيًا يرصد كيف حولت المجتمعات الزوجية إلى جهاز إنتاج نسَلٍ، ومتى تحولت إلى فعل وجوديّ قائم على الاختيار والرفقة.
–أولاً — جذور الأنطروبولوجيا: الزواج كتنظيم اجتماعي للتكاثر.
في قراءة أنثروبولوجية كلاسيكية، كان الزواج وظيفة مركزية لتنظيم النسب، وتوزيع الموارد، وتثبيت التحالفات بين العشائر والقبائل. علماء مثل مالينوسكي وليفي-ستروس رأوا أن أشكال الزواج وأنماط المحاقن الجنسية لا تُفسَّر فقط بالغرائز، بل ببنى اجتماعية وثقافية تعطي معنىً للتكاثر. الزواج هنا آلية تنظيم: إنتاج نسلٍ مشروع، حفظ الأنساب، ضبط ملكيات الأرض والوراثة.
الأنثروبولوجيا تُعلّمنا أن النكاح لم يكن يومًا شأناً فردياً بحتاَ، بل دائريّة مجتمعية تُعيد إنتاج النظام الثقافي؛ لذا «نكاح التناسل» في مجتمعات كثيرة لم يكن خياراً بل فرضاً وظيفياً.
ثانياً — من الحيوان إلى الإنسان: الفارق الفلسفي في المعنى.
الفيلسوفُ يقف عند فرق جوهري: الكائن الحيواني يُنتِج لأنّه مهيّأ بيولوجيًا؛ الإنسان ينتج معاني حول إنتاجه. نكاح التناسل إذًا يثير سؤالًا أنطولوجيًا: هل غاية الزواج هي الاستمرار البيولوجي فحسب، أم أن الزواج يعيد إنتاج ذواتٍ مُنَسَّقة عبر اللغة والقيم؟
هنا تتداخل مفاهيم نيتشه عن «إرادة الحياة» — ليست مجرد استمرار نسلي بقدر ما هي قوة تؤكد ذاتها عبر التناسل — مع نقد فوكو للسلطة الحيوية الذي يدلّل كيف أن الدولة والمؤسسات تحكم الأجساد وتوجّه التكاثر كجزء من استراتيجيات حكم. فالتناسُل تحت سيطرة سياساتٍ ليسَ بالضرورة قراراً فردياً؛ بل نتاج علاقات قوة ومعرفة تُشَكّل موضوعاتنا الجنسية والنسلية.
ثالثاً — نقد النكاح بوصفه مجرد وسيلة للتناسل: نيتشه وفوكو وبوفوار.
١_ نيتشه: سيمكننا استعارة فكرة «إرادة القوة» لتبيان أن تحويل الزواج إلى آلية تناسلية بحتة يختزل حياةً نشطة إلى وظيفةٍ سلبية؛ إذ يُمحى فيها بُعد الإبداع والخلق الذاتي.
٢_ فوكو: يوفّر مفهوم «البيوسلطة» أدوات لقراءة كيف أن الخطاب السياسي والطبّي يطبّع الأجساد ويحدد من يُعَدّ زوجًا شرعيًا، ومن يستثنى. فالتناسل يصبح معلبًا سياسياً تُديره أجهزة السلطة.
٣_ سيمون دي بوفوار: تضيف بعدًا أخلاقيًا وجوديًا، حين تقول (بصيغتها الخاصة) إن المرأة لم تعد «ذاتًا كاملة» إن حُصر زواجها في وظيفة إنجابية؛ فالقهر الذي يحوّل المرأة إلى أداة للتكاثر يخلخل وجودها الحرّ ويقوّض تكافؤها الإنساني.
رابعاً — الإيروس والوجود: ما الذي يخسره الإنسان عندما يحصر الزواج في التناسل؟
الزواج كصلة إنسانية يحمل في جوهره عناصر الرفقة، الحوار، التشكّل المشترك للمعنى، وتحويل الإثنين إلى «نحن». إن اختزال الزواج إلى «نكاح تناسل» يخصم من هذه الأبعاد: يتحوّل الآخر إلى وسيطٍ لإدامة النوع، لا شريك وجودي. هذا الاختزال يفضي إلى نوع من الاغتراب الداخلي — اغتراب الجسد عن اللغة، والزوجين عن مشروعهما المشترك. في السياق الفلسفي، يصبح الزواج منتجًا اجتماعيًا تقنيًا لا مشروع حياة.
خامساً — مسارات التحوّل: من النكاح التناسلي إلى «نكاح الوعي».
التاريخ الاجتماعي المعاصر يشهد تحولات: الفردانية، حقوق الإنسان، تمكين المرأة، والتحول في معايير التكاثر (وسائل منع الحمل، الإنجاب المساعد) كلّها عوامل أعادت تعريف الزاوية التي ننظر بها إلى الزواج. هنا تظهر مقولات جديدة:
الزواج كشراكة وجودية: حيث يُحتَفَى بالفردية والرفقة معًا.
الزواج كاختيار أخلاقي: إذ يُصبح الإنجاب خيارًا مشروعًا بين خيارات الحنان والمعنى، لا واجبًا مفروضاً.
_ أنثروبولوجيًا، نرى تكيُّفاً: مجتمعاتٌ تقنن الاختيار، وتقلّل من سلطة الأنساب، وتمنح الشباب حق التأسيس على أساس الحب والرغبة، لا فقط على قواعد النسب والموارد.
سادساً — شواهد أنثروبولوجية ملموسة:
دراسات حول المجتمعات الصناعية أظهرت تراجعًا في الزواج التقليدي لأجل التناسل، وارتفاعًا في «زواج الرفقة.
بحوث في ثقافات متعددة (بعض قبائل الشرق الأوسط وأفريقيا كما وثّق ذلك عدد من الأنثروبولوجيين) تُبيّن كيف أن إملاءات الحِفاظ على النسب والوراثة تضع قيودًا صارمة على حرية الاختيار وتؤدي إلى زواجٍ وظيفي.
دراسات مقارنة تشير إلى أن سياسات الدولة (التحفيزات الديموغرافية أو القيود) تغيّر أنماط الزواج والتناسل: أفول نكاح التناسل كآلية إجبارية يرافقه بروز مفهوم الزواج كشراكة.
على مستوى الاستشهاد العلمي الدقيق يمكن إدراج أعمال مثل: بروكفيلد/بعض أعمال مالينوسكي، ليفي-ستراوس، دراسات ميغ/مارغريت ميد، وأبحاث فوكو حول البيوسلطة؛ سأدرج لك مراجع محدّدة عند الطلب.
–خاتمة: منطق التحرر الأخلاقي والوجودي:
التحدّي الفلسفي والأخلاقي اليوم: كيف نعيد للزواج معنىً إنسانياً يتجاوز إنتاج النوع ليشمل الخلق المشترك للمعنى والوجود؟ إن الدعوة ليست إلى رفض التناسل (وهو قيمة إنسانية بحد ذاته)، بل إلى رفض خنق العلاقة الزوجية داخل آلياتٍ بيروقراطية أو اقتصادية أو سلطةٍ بيولوجية.
الزواج حين يكون قراراً واعياً مبنياً على الاحترام والمشاركة، يتحوّل من «نكاح تناسل» إلى نكاح وعي — تحالفٌ إنساني يقرّ بالحاجة إلى استمرار النوع معاً، لكنه لا يجعل من التناسل الغاية الوحيدة أو المقياس الحصري لكرامة الإنسان.