إنَّ من يقرأ التاريخ العربي ويحاول استشراف المستقبل من خلال ماضيه وحاضره، يدرك تمام الإدراك أننا بحاجة ماسّة إلى إعادة الاعتبار إلى العقل العربي الذي تم إغراقه في وحول قرون وسطى من التفكير. فعندما نطلّ على القعر المخيف من التفتّت والتخلّع والبربرية التي انحدر إليها الواقع العربي، ومعه منظومة تفكير ممزوجة باللا عقلانية – وهو تعبير فجّ مندفع إلى الأقصى عن حالة عربية عامة تعيش هذه الظواهر على نحو كامن وضمني – ندرك مدى صوابية قول لينين الموجَّه إلى أتباعه: إن على الماركسيين في البلدان المتأخرة أن يناضلوا ضد بقايا القرون الوسطى الماثلة دائماً في تركيبة المجتمع.
وأنا أقول إن هذه التوصية تنطبق، في واقع الحال، على مهمة جميع التقدميين والديمقراطيين والليبراليين القائلين بالحداثة والاندماج القومي، داخل كل قطر عربي بدايةً، ثم على المستوى العربي بشكل عام. فالتعرّف إلى الواقع العربي فعلٌ مشروط بثلاثة ضوابط كفيلة بجعل هذا التعرّف يتيح معرفة حقيقية بالواقع، لا قراءة مزوّدة أو مزوّرة تدّعي أنها ترسم الواقع بأمانة، فيما هي في حقيقتها تسقط تصوّرات صاحبها وفرضياته المسبقة.
لقد حاول بعض من اعتبروا أنفسهم قادرين على قراءة الواقع أن يختطّوا لأنفسهم طريقاً وسطاً منيعاً بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة، مبينين حدود كل منهما في الوقت نفسه. غير أن الأصالة من دون حداثة تظل فارغة، والحداثة من دون أصالة تظل عمياء. فالأولى أصالة اجترارية وانتحالية ومراوحة في المكان، والثانية تبعية مادية واستلاب روحي وثقافي، وشقاق اجتماعي وتكوين مجتمع مرتبط بالخارج معادٍ للمجتمع المحلي. إنّها تمثل اغتراباً تاريخياً حقيقياً وتراجعاً وتحلّلاً للذات العربية.
الإخفاق في تملّك الحضارة والمشاركة الفعلية في مسارها هو الدافع إلى رفض ثقافتها وإنكار قيمتها. بل إن الإخفاق المتكرّر والمستمر في استيعاب الحضارة هو الحافز الأساس لاستمرار الحديث عن الهوية والمعاصرة. إذ ليس للهوية من حلّ سوى النجاح في التوصّل إلى مشاركة إيجابية في الحضارة، لأن ذلك هو مصدر الشعور بالذاتية التاريخية الفاعلة.
وإذا كانت الثقافة العربية تعيش محنة عسيرة، فإنها محنة الذات العربية نفسها، من حيث هي ممزقة بين تمسّكها بذاتها وانشدادها إلى نرجسيتها، وبين اعترافها بالآخر أو رفضها له. هي محنة تتراوح بين قبول الذات ورفضها، وبين قبول الآخر ورفضه، بين ضرورة السلفية وحتمية التبعية. وضع شقي مأساوي يتأرجح بين خيارين.
لذلك ينصبّ جهد الذين اختطّوا لأنفسهم طريقاً وسطاً بين الأصالة والمعاصرة في اتجاه طريق رابع: طريق نقدي جذري مزدوج، تتبيّن فيه محاسن كل مسعى ومثالياته، بعيداً عن التعصب وواحدية الموقف. هذا الطريق الرابع هو طريق الإبداع واكتشاف الذات، من دون ذوبان في الغرب أو تقليد له، ومن دون تقوقع في الماضي أو توفيقية ساذجة. إنّه الطريق الوحيد الممكن استجابةً لقانون التاريخ: إما المساهمة في الصراع الحضاري (صموئيل هنتغتون)، أو الانسحاب من التاريخ وموته (فرانسيس فوكوياما).
من هنا رأى العديد من المفكرين أنه ليس أمام العرب إلا الانخراط في نهضة تكون مشروعاً لتحقيق الذات العربية بما هي هوية حضارية. نهضة تعني الإبداع، والإبداع هو مجال تحقيق الذات العربية ومشروعها. فالتمسّك بالهوية والاندفاع وراء الحضارة حركتان أصيلتان متكاملتان: السعي وراء الحضارة يصون الجماعة من الانحلال والاندثار، ويضمن تميّزها كجماعة مستقلة.
في الماضي القريب – القرن التاسع عشر – شهد الوطن العربي، وخاصة في مصر، مخاضات نهضة الوعي. لكن الاحتلال الأوروبي سحق هذه البذور النهضوية، فقضى على آمال النهضة العربية، وفرض على العرب نظام التجزئة الإقليمية والحماية والوصاية الأجنبية. ثم تبلورت، في منتصف القرن العشرين، عوامل مقاومة عربية جديدة تجسّدت في أنظمة قومية واشتراكية. عاش العرب عقدين من الزمن آمال التحرر وحلم الوحدة والنهضة الاقتصادية والثقافية، لكن سرعان ما توالت الهزائم: احتلال فلسطين، العدوان الثلاثي، انفصال الوحدة السورية–المصرية، حرب اليمن، ثم هزيمة حزيران 1967. وكانت تلك بداية تراجع المدّ التحرري الذي ما زالت نتائجه تتفاقم حتى الآن.
أما الفكر العروبي، فهو فكر يدافع عن العرب وعن مقومات الأمة العربية التاريخية والسياسية والثقافية والجغرافية، لأنه يبرز شخصية الإنسان العربي وفرادتها. فالعرب منذ ما قبل الإسلام كانوا يحسّون إحساساً فريداً بلغتهم، وبوحدةٍ ما وراء منازعات قبائلهم. ثم جاء الإسلام عربياً في قرآنه ولغته ودعوته الأولى، وبواسطتهم انتشر. وبذلك أصبح للعرب نصيب خاص في تاريخ الإسلام، جعل لغتهم لغة الدين والثقافة. حتى عندما انتقلت السلطة إلى الأتراك بقيت العربية في مركزها الثقافي. ومع تفكك الدولة العثمانية ظهر الشعور الإقليمي، وقامت حركات مقاومة بقيادة زعامات دينية–مدينية استندت إلى علوم اللغة العربية والتراث.
هنا يبرز السؤال: هل الفكر العروبي ذو جذور في الإسلام؟ وهل زعماء الحركة الدينية الذين استعملوا العربية كانوا عروبيين بالفكر؟
إن حوادث التاريخ متصلة ببعضها، والثورات ليست منفصلة عن تربة الأمة. وعروبة العقل هي ذاتها العروبة الواعية المتجلية في الأحداث التاريخية والسياسية والثقافية. غير أن العروبة لا تكتمل إلا بعنصر آخر: عروبة القلب. عروبة القلب تعني الإيمان العميق بحق الأمة في الحرية، إيماناً ينبني على معرفة التراث ولغة الفكر، ليكون أساساً متيناً لعلاقة مادية وثقافية تبني المستقبل.
من هنا، فإن عروبة اللسان، وعروبة العقل (الوعي التاريخي)، وعروبة القلب (الشعور) اصطلاحات لم تتبلور إلا في القرن التاسع عشر. فهل يمكن أن نقول إن العروبة مرادفة للقومية والوطنية؟ وماذا نقول للذين يفرّطون بعروبتهم ووطنهم ويضعون أنفسهم في خدمة القوى الاستعمارية والصهيونية، بل يعملون علناً لتفتيت سورية وغيرها من الدول العربية؟
القومية، بوجه عام، تقوم على مصالح مشتركة اقتصادية واجتماعية، تدعمها عقيدة وشعور شعبي. لكن هل ينطبق ذلك على القومية العربية؟ لا تماماً. فالعقيدة المشتركة ليست محدَّدة بدين بعينه، إذ إن الكثير من المفكرين والمثقفين والمناضلين المسيحيين العرب أسهموا بعمق في الفكر القومي (قسطنطين زريق، شبلي شميل، جورج حبش…). لذا لا يمكن إقصاؤهم من دائرة العروبة. من هنا فالعروبة ليست مرادفة مباشرة للقومية، بل مرحلة تأسيسية لها. كما أنها ليست مرادفة للوطنية، لأن الوطنية بدورها متعددة الدلالات: وطن خاص، وطن عام، وطن فعلي.
أما إدراك واقع المنطقة العربية (الشرق الأوسط) – بما يشمل الكيان الصهيوني – فليس بالأمر الهيّن. فهناك مرايا مشوّهة يرى فيها الشرق الغرب والغرب الشرق بعين العداء والريبة. والتاريخ المعاصر للمنطقة سلسلة انقلابات وثورات قصور وهزائم عسكرية، كثيراً ما تُعزى إلى مفاهيم أحادية مثل “التخلّف” أو “المؤامرة”، بينما هي نتيجة لعوامل معقّدة، منها التدخلات الاستعمارية والصهيونية، ومنها الانقسامات الداخلية.
إن الشرق الأوسط، بموقعه الاستراتيجي وتاريخه كملتقى للديانات والحضارات، لا يمكن فهم تحوّلاته بسهولة. فالمشروع الصهيوني – الغائب الحاضر – يسعى إلى تشكيل منطقة تخدم وجوده كدولة يهودية، تخدم بدورها المصالح الغربية.
إن فهم ما يجري يشترط تجاوز القراءة العقلانية الشكلية، والنظر بعمق إلى التناقضات والأيديولوجيات المتصارعة. وحده وفاق تاريخي حقيقي يمكن أن يتيح تصالح الشرق الأدنى مع ذاته والغرب مع ذاته، بحيث تجد اليهودية مكانها الطبيعي بينهما، ويجد الإسلام موقعه بعيداً عن نظرات الآخر المشوّهة، ويجد العرب سبيلاً للعيش بحرية واختيار.
إن منطقتنا اليوم تواجه طغياناً مزدوجاً: طغياناً خارجياً يتمثل في الهيمنة الصهيو–أمريكية، وطغياناً داخلياً يتمثل في سلطات سياسية تعزّز الانشقاقات وتغذّي الانقسامات باسم العروبة، بينما هي في حقيقتها أدوات هيمنة وتفتيت.