قراءة أوليّة في تاريخ النقد الأدبي العربي من الجاهليّة إلى العباسيين:

د. عدنان عويّد

1- نشأة النقد الأدبي العربي :

في المفهوم  : يبدو أن النقد أمر فطري في الإنسان, فالإنسان يميز بفطرته بين الخير والشر، وبين القبح والجمال، وبين اللذّة والألم، وينفر من الكلمة الخشنة الجافة.

(والنقد الأدبي هو من يكشف أصالة الأدب أو عدم إصالته, ويميز جيده من رديئه, وسواء كان النقد علماً أو فناً فهو ليس قائماً بذاته, وإنما هو متصل بالأدب يستمد منه وجوده, ويسير في ظله, ويرصد خطأه واتجاهاته.). (1).

مفهوم النقد عند العرب:

النقد كما عبرت عنه المعاجم  العربيّة مأخوذ من (“نقد الصيرفي الدراهم, والدنانير  وانتقدها”, أي ميز صحيحها من زائفها, وجيدها من رديئها, ومن معانيه أيضاً “النقاش”, فيقال ناقد فلان فلاناً في الأمر, أي ناقشه فيه”. ومن هذا المعنى  الأصلي للكلمة جاء معنى النقد في الأدب, ذلك أن ما يفعله الناقد من محاولة التمييز بين جيد الكلام ورديئه, إلا من جنس ما يفعله الصيرفي نقد الدراهم والدنانير). (2).

أما النقد الأدبي اصطلاحاً: (فيُعد عمليّة تحليل وتفسير وتقييم الأعمال الأدبيّة، وتتم عملية النقد من خلال أربع مراحل، وهي الملاحظة والتحليل والتفسير والتقويم. ففي المرحلة الأولى تتم قراءة النص الأدبي ومحاولة فهم معناه، ويقوم الناقد في المرحلة الثانية بتحليل النص الأدبي وتفكيكه إلى عناصره الأوليّة ومعرفة طريقة تنظيم الأجزاء مع بعضها بعضاً. وفي المرحلة الثالثة يشرح الناقد العلاقة بين الأجزاء والعناصر ومعرفة ما يودُّ المؤلف قوله، وأخيراً يُصدر حُكمه المبنى على فهمه للنص ككل.).(3).

أما تعريف النقد عند النقاد والأدباء العرب القدامى: فقد عرفه على سبيل المثال : “قدامة بن جعفر” : (بأنّه علم تلخيص جيد الشعر من رديئة, كي لا يتخبّط الناس في الشعر، وكي يتفقّهوا في العلوم, فقليلًا ما يصيبون في فَهم الشعر, فالنقد يُبين صحة الكلام وصوابه.). (4). وتاريخ النقد الأدبي عند العرب صناعة وعلم، فلا بد للناقد من التمكن من أدواته، ويُفضّل في الناقد أن يلمّ بالعلوم الأدبيّة المختلفة من مثل عِلم الغريب، وعِلم البلاغة والنحو، وأغراض المعاني، وعلمَيْ الوزن والقوافي، والثقافة العامة في الأدب.. وعندما طُرح السؤال حول البداية الأولى للنقد العربي، تعددت الإجابات وتشعبت، فاختلف الناس فيها بين قابل ورافض، ولكل واحد من الطرفين منطلق يبرر به قبوله أو رفضه. هكذا أثارت مرحلة البداية الأولى للنقد نقاشا محتدماً بين الباحثين المحدثيـن الذين اختلفوا في تقويم ما أثير عن هذه المرحلة من أقوال نقديّة، وأحكام موجزة مرتجلة، ومقاييس ذوقيّة غير معللة.(5).

٢ آراء في النقد الأدبي عند بعض النقاد العرب:

لقد تعدد آراء الباحثين في قضايا النقد الأدبي وتاريخه  في تحديد مفهوم النقد, ففريق من الباحثين يرى أن مرحلة العصر الجاهلي هي المرحلة التي تطور عنها النقد لينتهي إلى أن العرب عرفوا النقد انطلاقا من التلازم المفترض بين الشعر والنقد، فما دام لدينا شعر فلا بد أن يكون لدينا نقد. بل منهم من يذهب أبعد من ذلك حين يعتبر أن النقد أسبق إلى الوجود من تلك الفنون”, وهل الأديب إلا ناقد قبل أن تأخذ أفكاره صبغتها الفنية، ومن أشهر من حمل مشعل هذه الفئة:

الأستاذ “طه أحمد إبراهيم. والأستاذ محمد زغلول سالم”. (6).

وفريق آخر قرأ النقد العربي القديم انطلاقا من مفاهيم نقديّة مستمدة من الثقافة الغربيّة، وانتهى برفضه للبداية الأوليّة للنقد، لينص أن النقد لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري، وقبل هذه المرحلة لا يمكن أن يُعتد به. وبذلك يكون قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال تصورات ومفاهيم جديدة حول النقد، يحكمه منهـج مـأخوذ مـن ثقافة الآخر، ومن رواد هذه الفئة ” د. محمد مندور” . (7)

وفريق ثالث نص على أن النقد العربي لن يظهر إلا بظهور الفلسفة وقد توصل لهذه النتيجة من خلال استقراء تاريخي لتاريخ النقد الأدبي في أوربا, ومادامت الفلسفة قد تأخر ظهورها في الثقافة العربيّة، فطبيعي أن يتأخر ظهور النقد، ولن يظهر إلا مع ظهور الفكر الفلسفي على يد المعتزلة و المتكلمين، ومن رواد هذا الطرح الدكتور “محمد غنيمي هالل”. (8).

هذا وإن الأشكال النقديّة عند العرب تستمد حضورها وفاعليتها في تاريخ النقد الأدبي عند العرب, من علوم اللغة وعِلم الفلسفة، فمنذ العصر الجاهلي عُرفت ألوانُ مختلفة من النقد، ويمكن أن تُجمَل الأشكال النقديّة عند العرب القدماء كما يأتي:

1- القصائد الحوليّة المحكّمة: وهي القصائد التي استغرقت حولًا كاملًا في تدقيقها الشديد أو مراجعتها.

2- الاحتكام, أو الشعر المحكم: وهي أن بعض الشعراء كانوا يلجؤون إلى من يُفاضل بينهم، ولُقِّب هذا الحَكَم بالقاضي، فكان يحكم بين الشعراء أيُّهم أجود بلاغة ولفظًا.

3- الأسواق الأدبيّة: وهي الظاهرة التي امتدت من العصر الجاهلي إلى الإسلام، وهي الأسواق التي يجتمع فيها الشعراء فيلقون الشعر ويتلقون النقد ملاحظة لهم أو عليهم، ومن أشهر هذا الأسواق في الجاهلية “سوق عكاظ”. ”

4- مجالس الشعراء: كانت مجالس الشعراء تدور فيها ملاحظات الشعراء بعضهم على بعض، وهي ملاحظات ذات قيم نقديّة يغلب عليها الروح الانطباعيّة والشكلانيّة, وكان لكل شاعر طريقته الخاصة في النقد. (9).

النقد الأدبي في العصر الجاهلي:

إن الملاحظات النقديّة التي توصل إليها النقاد عن العصر الجاهلي وشعره وشعرائه, تؤكد أن نقدهم كان مبنيا على (الذوق والفطرة) التي تتأثر بما تسمع من قول تصدر عليه الحكم غير معلل أو غير مشفوع بحيثياته.

فالناقد إذا ما استساغ بذوقه الفطري قصيدة أو جزءاً من قصيدة, أو بيتاً أو حتى نصف بيت منها, ما أسرع أن يندفع إلى التعميم في الحكم, ويجعل من الشاعر أشعر الناس, هذا بالنسبة لملكة النقد في تلك المرحلة. أما نقدهم فقد تحرك في ميدانيين كما يذكر الناقد “عبد العزيز عتيق” هما: (ميدان الحكم على الشعر), و(ميدان الحكم على الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض), وغالباً ما تُمييز بعض القصائد الجيدة بألقاب. ففي ميدان الحكم على الشعر اتجه نقدهم إلى الألفاظ والمعاني, وبناء الصور الشعريّة, فنظم الكلام عندهم محكم أم غير محكم, والمعاني مقبولة أم غير مقبولة, والصور الشعريّة كاملة البناء أم ناقصة البناء. أما واقع النقد وتحركه في ميدان السعراء والمفاضلة بينهم وخلع الألقاب على بعض قصائدهم. فالحكم لشاعر بالشاعريّة, أو الحكم بتفضيله على غيره, أو الحكم بجودة قصيدة وتلقيبها بلقب خاص, لم يكن حكماً مسبباً ومعللاً, وإنما كان حكما تأثريّاً قوامه الذوق والفطرة. (10)

النقد الأدبي في عصر الرسول:

لا شك إن الشعر في عصر الرسول قلَّ كماً وكيفا وموضوعاً, وأنه ظل جاهليًاً في شكله ومضمونه وروحه, وهو لم يتطور عن نهجه القديم ألا قليلاً. وما تأثره في الإسلام إلا قليلاً و خاصة في المعاني والمقاصد الدينيّة, حيث فرض على الشاعر أن يلتزم قول الحق في كل ما يقول, ويبتعد عن الذم والحقد والهجاء وكل ما يخالف روح المحبة والتسامح. وهذا ما أكد عليه الرسول بقوله: (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن, وما لم يوافق الحق فيه فلا خير فيه.). (11)

أما انقد في عصر الخلفاء الراشدين:

لقد ظل النقد الأدبي هنا يتمثل في جوهره مبادئ النقد الجاهل ذاتها عدا التمسك بالمضمون الأخلاقي الذي ساد في عصر الرسول. وبشكل عام إن نقد الشعر في عصر الخلفاء الراشدين والصحابة, كان يدعوا إلى العدول عنه إلى القرآن الكريم, والعمل على تلقين الأبناء أحسنه وأعفه تقويماً لألسنتهم وتهذيباً لنفوسهم, والاستعانة به عند الاقتضاء في تفهم القرآن كتاب الله. (فالشعر الذي يحقق المتعة الأدبيّة, ويُسكن به الغيض, وتطفأ به الثائرة, ويعطى به السائل, وينزع إلى الفضائل بصفة عامة, هو الشعر الذي راق للخلفاء الراشدين واستحق التشجيع والتقدير.). (12).

النقد الأدبي في العصر الأموي:

نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاثة هي : الحجاز و العراق و الشام، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

يطلق على العصر الأموي على المرحلة التي تبدأ بخلافة معاوية سنة 41هـ, وتنتهي بغلبة العباسيين عليهم وانتزاع السلطة منهم سنة 132هـ.

وبناءً على التحولات التاريخيّة التي تمت في بنية الدولة الأمويّة بسبب الفتوحات الواسعة ودخول شعوب أخرى لها ثقافتها وطموحاتها السياسيّة, ولكثرة تدفق الثروات على المسلمين العرب الفاتحين, راحت تتجلى مجموعة نزعات عند الشعراء الأمويين. فهناك من الشعراء لم يستطع شعرهم أن يعزل نفسه عن جملة الصراعات الدائرة وكان مؤثراً في الفتن الدائرة, ولسان الأحزاب, حيث كان لكل حزب شعراؤه الذين يناضلون ويعبرون عنه, ويصطبغ شعرهم بصبغة العقيدة التي يدعو إليها هذا الحزب أو ذاك. (13).

بيد أن الحياة السياسيّة وصراعاتها لم تكن الشغل الشاغل للشعراء, وإنما كان هناك شعراء أبعدوا أنفسهم عن حالات الصراع الدائرة, وراحوا يغردون لأنفسهم ويصنعون شعراً عاطفيّاً تعلق بالمرأة ومغامرات الشعراء معها, وخاصة بعد أن كثر عدد النساء من الموالي وما تركوه من أثر في حياة الشعر الأموي وطقوس الغناء والطرب وبخاصة في الحجاز وباديتها. حيث لا يزال شعر أهل الحجاز إلى اليوم له تأثيره وجماله وقيمته الأدبيّة. (وكان الشاعر “عمر بن ابي ربيعة” هو رائد هذا الشعر أو من حمل لواءه في الحجاز, وسار على منواله كثيرون من شعراء مكة والمدينة, من أمثال ” العرجي” وأبو دهبل” و” الحاري بن خالد المخزومي”  و” عبيد الله بن قيس الرقيات” و” الأحوص” ونُصيب بن رباح”  و” قيس بن ذريح”. ومن يتابع النقد الأدبي في العصر الأموي كما يذكر كتاب الأغاني, يدهش مما يرى من اهتمام عام بالنقد الأدبي على جميع المستويات ومختلف الطبقات. فالنقد الأدبي أسهم به في تلك لفترة النساء والرجال والشعراء وغير الشعراء كل على قدر فهمه وذوقه وروحه ونوع ثقافته.). (14). هذا وقد انصب النقد حول نقد الشعراء أنفسهم من حيث شعريتهم وأغراض شعرهم ومغامراته العاطفية وغير ذلك. (كما انصب على المفاضلات والموازنات الشعريّة, من حيث الصدق الشعري في المعنى والعاطفة, أو في الشعر الذي يوحيه العقل والمنطق, أو العقل والعاطفة, وتفضيل الثاني على الأول.). (15).. (كما بدأ يظهر في تلك الفترة الكلام عن السرقات الشعريّة أو أخذ بعض الشعراء عن بعض وغير ذلك من موقف.). (16). والنقد في هذه المدرسة غالبا ما اتجه أيضاً الى المعاني التي وعاها النص، والتي كان الناقد يعرضها على ذوقه الحضري، فيقبل منها ما يراه موائما لهذا الذوق، وما هو أليق لعاطفة الحب وأنسب لفن الغزل. (ومن النقاد كان هناك “ابن أبي عتيق”. الذي تميز في نقده بذوق مترف وحس مرهف وبصيرة نافذة في التمييز بين جيد الشعر ورديئه, وكان على صلة وثيقة بتيارات الشعر واتجاهاتها.). (17).  والشعر الجيد عن “ابن أبي عتيقة” هو الشعر الذي تظهر فيه قوة وصلابة النقد, والذي يشتغل على دقة عاطفة قائله, وتأثيره في عواطف سامعيه. أي (أن يكون له موقع في القلب وعلوق في النفس, وأن يكون بليغاً في الوفاء بغرضه والتعبير عنه.). (18).. هذا إضافة إلى ما يمتاز به الشاعر وشعره من سمات وخصائص مثل: (دقة المعنى, ولطف المدخل, وسهولة المخرج ومتانة الحشو, وتعطف الحواشي, وإنارة المعاني, والإعراب عن الحاجة. وقبول المعاني السارة ورفض المعاني  المؤلمة التي تدعو إلى التطير).(19).. (إنها في العموم مدرسة الغزل وكان النقد فيها مطبوعاً بطابع الذوق الفني والرقة، والروح الإنسانيّة) (20). ، (تبعاً لأدب هذه البيئة التي شاع فيه ما شاع من رقة وخفة وظرف، وتذوق رفيع للجمال وأساليب القول). (21). أو كما يقول أحمد أمين : (لقد  نشأ في الحجاز شعر رقيق يتفق وروح العصر، فيه دعابة وفيه وصف للنساء صريح، وفيه قصص لأحداث الشعراء مع النساء …. هذا الأدب الجديد في هذه البيئة اللاهية استتبع كذلك رقيّاً في النقد يدل على رقي في الذوق). (22).

النقد الأدبي في العصر الأموي – العراق أنموذجاً:

قلنا في عرضنا السابق بأن النقد الأدبي في العصر الأموي نما وازدهر في بيئات ثلاث هي : الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعيّة و السياسيّة والفكريّة التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر, فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات.

اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبيّة القبليّة التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت إلى حد ما في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق تصب في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بما هو مر ومقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهميّة وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص شعر الثالوث الخطير : “الفرزدق وجرير والأخطل” الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر. وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر (المربد) الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهليّة، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهليّة من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة, وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام. ( 23).

كما  خلف لنا النقد الأدبي في العراق في العصر الأموي نوعاً من النقد يفاضل بين الشعراء ويوازن بين الأعمال الشعريّة، ويميز بين طرائق التعبير على أساس من فحولة الأسلوب…  (وهذا ما أفضى إلى بزوغ نجم النقد في هذه المدرسة، وهو نقد يقوم على المفاضلة بين الشعراء بناء على ما يقدم كل منهم في أشعاره، وما يستخدم من أساليب وطرق يُعبّر بها عن مضمون الفكرة أو الغرض الذي أراده الشاعر، وتميز شعراء هذه المدرسة بتعففهم عن استجداء أعطيات الخلفاء والأمراء وظهور العزة والأنفة فيهم.). (24). ومع نمو الحركات السياسيّة، خلف لنا نوعاً من الشعر الذي يرفض التوجه للأمراء والتمسح بالملوك واستجداء المال بالمدح كما في شعر الخوارج, كما  نمت الى جوار هذا الشعر حركة نقديّة مالت إلى تقييم الشعر على ضوء التزامه بالقيم الدينيّة والخلقيّة. (25).

ولا ننسى أن بيئة العراق بيئة علميّة ثقافيّة امتزجت فيها الأصول العربية والأصول الأجنبية, ولذلك تأثرت هذه المدرسة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالباً على قواعد النحو وأصول اللغة، ويقيسون الأدب بمقاييسها، ويحاولون أن يخضعوا الشعراء لها. تلك هي مدرسة اللغويين في العراق التي غلب عليها الطابع اللغوي والنحوي، وإن لم تهمل الجوانب المعنويّة والتعبيريّة الأخرى. ولم يكن هؤلاء العلماء النقاد من اللغويين والنحويين، على درجة واحدة في التزام المقياس العلمي، (فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساساً على الأصول المقررة في اللغة والنحو والعروض، ومنهم من يميل الى الأصول الأدبية الفنيّة في التعبير والتصوير.). (26).

النقد الأدبي في بلاد الشام في العصر الأموي:

في الحقيقة لا يوجد في بلاد الشام سمات وخصائص متميزة يتفرد بها النقد الأدبي في هذه البلاد بالنسبة للعصر الأموي. وذلك راجع إلى أن أكثر سكان الشام من العرب اليمنيين الذين اكتسبوا لغة عرب الشام اكتساباً, (وبالتالي لم يستطيعوا أن يشتغلوا عليها في قول الشعر ونظمه. الأمر الذي حال دون ظهور شعراء معرفين ومشهورين لديهم سوى “عدي بن الرقاع العامدي” ومع ذلك هو لم يستطيع أن يرتقي بشعره إلى مستوى شعراء العراق مثل جرير والفرزدق وذو الرمة والأخطل.). (27).

(إن شعر الشام كان, إما وافداً, اقتصر دوره على مدح الخلفاء والأمراء والولاة طالباً عطائهم. أو هو شعر الحروب القبليّة التي كانت تدور بين القبائل القيسيّة واليمنيّة التي وفدت أثناء الفتوحات إلى بلاد الشام. ولعل الشعر الوحيد الذي نبع من بلاد الشام هو الشعر الذي احتفى به بعض الأمراء الذي انغمسوا باللهو وليالي الطرب والشراب, كيزيد بن معاوية, ويزيد بن عبد الملك, والوليد بن يزيد بن عبد الملك.). (28).

وأكثر النقد الأدبي الذي عرفته بيئة الشام في العصر الأموي, (قد صدر عن الخلفاء والأمراء لسعة إحاطتهم باللغة والأدب, ولمعرفتهم الدقيقة بمحاسن الكلام ولمشاركتهم الفعليّة فيما كان يجري من حوار ونقاش حول الشعر.). (29). كعبد “الملك بن مروان”, حيث كان له مجلسه الأدبي في قصره الذي يفد إليه الشعراء, وتعقد فيه حوارات نقدية حول الشعر ونقده في كل مذهب. بالرغم أن هذا النقد ظل يعتمد على الذوق الفطري ذي السمات والخصائص العربيّة الخالصة.(30).

النقد في العصر العباس:

في القرنين الثاني والثالث للهجرة ومنذ وصول العباسيين للخلافة, بدأ العصر الذهبي الذي أخذت فيه الحضارة العربيّة تنزع إلى الترف وتتشكل معظم مقوماتها, حيث نشأت أكثر العلوم العربيّة والإسلاميّة وبدأ تدوينها, وظهور ما يسمى بعصر التدوين, إذ نقل إلى العربيّة ما نقل من علوم اليونان والفرس والهند, (وفي هذه الفترة بدأ الشعر العربي يتحول إلى فن وصناعة بعد أن كان يصدر عن طبع وسليقة, وظهر من بين الموالي الكثير من الشعراء والكتاب والأدباء والعلماء, الذين عدو عرباً لنشأتهم في البصرة والكوفة اللتين نزلتهما في صدر الإسلام  بعض القبائل العربيّة التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الشعراء بالولاء.). (31). وكان من أهم الأسباب التي أدت الى ازدهار النقد في العصر العباسي, تلك الظروف والعوامل الاجتماعية التي طبعت الأدب والعلوم بطبائعها، وأثرت في فكر الشعراء والنقاد وعكست ملامحها عليهم، ودفعت النقاد الى دراسة ما يكون لهؤلاء الادباء من خصائص أسلوبية يفرقون بها بين أديب وآخر.

عندما نتابع النقد في العصر العباسي نجد إمعانًا في الحضارة وإمعانًا في الترف,  وأن الشعر والأدب يتحولان إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة كما بينا قبل قليل، حتى لنرى كثيرًا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عرباً بالمربى. كما نرى أن الثقافة راحت تتعاظم وتتسع وتشمل فروع المعرفة كلها لولم تعد تقتصر على الثقافة الدينيّة والأدبية، وذلك بسبب تدفق الثقافات الأجنبيّة على الخلافة الإسلاميّة من فارسيّة وهنديّة ويونانيّة, ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول إلى علم حتى اللغة والأدب والنحو والصرف. فكان طبيعيًّا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علميّة واسعة، وأن يتأثر النقد الأدبي بهذه الثروة العلميّة والأدبيّة الواسعة.

لقد كان مما عمله العلماء, (أنهم جمعوا ما استطاعوا من أشعار الجاهليين والإسلاميين، فكانت المادة الأدبيّة التي ينقدونها أغزر وأوفر، وجمعوا مادة اللغة، واطلعوا على أقوال النقاد السابقين كما نقلت إليهم أقوال الفرس والهند واليونان في معنى البلاغة وشروطها. فكل هذا أفسح لهم مجال النقد, ومكّن لهم من رقي الذوق, كما مكن لهم من أن يحولوا النقد القديم غير المعلل الذي لا يعدو أستحسان أو استهجان, إلى نقد معلل يبين فيه سبب الاستحسان والاستهجان.). (32). وعلى هذا لم يعد النقد الأدبي على ما يبدو ضرباً من ضربا الترف الأدبي أو نقداً سلبيّاً يقف عند حدود التذوق, كما كان في المراحل السابقة, وإنما بدأ يتحول تدريجيّاً إلى نقد إيجابي يتجاوز حدود التذوق إلى حدود التفسير والتعليل, وإلى حدود إيراد الأحكام النقديّة مشفوعة بعللها وأسبابها. (مثلما أصبح للأدب والكثير من العلوم الأخرى اتجاهاً علميّاً حيث راحت تؤلف الكتب العربيّة في العديد من معارف ذلك العصر. فعلى مستوى الأدب والنقد الأدبي في العصر العباسي تم الاهتمام في هذا الاتجاه, وراح المهتمون ينهجون فيه نهجاً تاريخياً, حيث وضعت الكتب التي جُمع فيها الكثير من شعر الجاهليين والإسلاميين, ورتبوا أصحابها إلى طبقات, وذكر طرفاً من تاريخ حياتهم, ومن آراء وأقوال النقاد في شعرهم. مثل كتاب ” جمهرة أشعار العرب”  لأبي زيد القرشي. وكتاب (طبقات الشعراء) لـ”محمد بن سلام.). كما وضعت كتب للنحو والبلاغة من قبل العديد من النحاة كأبي الأسود الدؤلي وابن جني وسيبويه.). (33). وظهر في هذا العصر الكثير من الأدباء (كابن قتيبة  والجاحظ الذي كان أديباً ونحويّاً, ومن الذين اشتغلوا على علم الكلام والبلاغة والمحسنات البديعة. فهذا “محد بن سلام” يكتب عن ضرورة ثقافة الناقد حيث يقول في كتابه (طبقات الشعراء): إن كثرة المدارس تعين على العلم, وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر الصناعات. والصناعات منها ما تثقفه العين, ومنها ما تثقفه الأذن, ومنها ما تثقفه اليد, ومنها ما يثقفه اللسان.). (34).. وهو هنا يريد أن يقول إن قول الشعر صنعة لها أصولها العلميّة وهي كالحرفة التي تصقل بالممارسة والتجربة.

ولو تتبعنا ما روي لنا من النقد الأدبي في هذا العصر لرأيناه متجهًا إلى عدة اتجاهات لم تكتمل ملامحها النقدية بشكل واضح, ولذلك سنجد هنا نوعاً من النمذجة النظريّة لهذه المدارس النقديّة استنتجها بعض النقاد المحدثين من السيرة العامة لتاريخ النقد في العصر العباسي  منها:

أولاً: الاتجاه اللغوي:

هو اتجاه نقدي يعتمد على اتخاذ قواعد اللغة أساسًا لنقد الأدب، وقد بدأت خطواته الأولى بصورة أوليّة ساذجة في غضون القرن الثاني للهجرة، وذلك على أيدي طائفة من النحاة واللغويين والرواة الذين أصدروا أحكامهم على الشعر وانتقاداتهم للشعراء في ضوء بعض المقاييس النحويّة أو اللغويّة أو العروضيّة، التي كانت قد تحددت آنذاك. من أبرز هؤلاء: (عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117 هـ) ويحيى بن يعمر (ت 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ)، والمفضل الضبي (ت168هـ)، والأصمعي (ت216هـ)، وغيرهم.). (35).

ثانيًا: الاتجاه الكلاسيكي الاتباعي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على الالتزام بالأصول والتقاليد الفنيّة الموروثة، ويرى ضرورة اتباعها، وعدم الخروج عليها. وخير ما يمثل ذلك المنهج هو النقد العربي في فترة طويلة من تاريخه، فقد زاول النقد العربي لفترات طويلة هذا الأسلوب في النقد، وبخاصة حين استقر ما عُرف بعمود الشعر. ومن رأي القدماء في  هذه الاتجاه الفني (إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف, ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم، والتئامها في التخيّر من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا تحدث منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر. وقد مضى المرزوقي شارحًا ومحللاً هذه الأصول الفنية، ثم انتهى إلى إعلان الرأي العام العربي الذواقة للشعر، “فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم الْمُفْلِقُ المعظم، والمحسن المقدم، وهناك إجماع مأخوذ به ومنهج متبع حتى الآن”.).(36).

ثالثًا: الاتجاه الرومانسي التجديدي:

وهو ذلك المنهج الذي يقوم على التحرر من الأصول الموروثة، وتعظيم الذوق الفردي بناء على أن الإنسان مقيّد بشخصيته، وأنه ليست هناك مقاييس يستطيع أن يزن بها أفكاره، أو أفكار غيره، فالشخصيات تختلف. ولذا ينبغي أن يفهم كل قارئ العمل الفني حسب طبيعته، أي: ميوله النفسيّة واستعداده الكافي. (ويمكن أن يُعقد الشبه هنا بين هذا المنهج وبين اتجاه التجديد الذي شاع في العصر العباسي وتزعمه “أبو نواس، وبشار، ومسلم بن الوليد”، وأضرابهم ممن نحوا نحو التجديد والخروج على عمود الشعر القديم. وبلغ أوجه عند “المتنبي وأبي العلاء المعري”. ولعل أول محاولة علميّة جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولّي الخلافة يوماً وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة 296 هجرية. هذا الخليفة هو “أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد”، والمولود سنة 247 هجرية. لقد كان شاعراً مطبوعا مقتدرا على الشعر، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مغرما بالبديع في شعره، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء، والأدباء معدودا من جملتهم، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها: ديوانه، وطبقات الشعراء، وكتاب البديع.).(37).

(وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة وصاحب كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة 274 للهجرة).(38).

رابعًا : الاتجاه التاريخي:

إنه المنهج المعني بوصف الأحداث التي وقعت في الماضي وصفًا كيفيًّا، يتناول رصد عناصرها وتحليلها ومناقشتها وتفسيرها، والاستناد على ذلك الوصف في استيعاب الواقع الحالي، وتوقع اتجاهاتها المستقبلية القريبة والبعيدة. وهو في سياق الدرس الأدبي: يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب, ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه وغوامضه. وهو يقوم بالأساس على توظيف المعلومات التاريخيّة في فهم الظاهرة الأدبية/الإبداعيّة باعتبارها مُعطًى تاريخيًّا قبل كل شيء، ويربط الوقائع الأدبيّة بالحقائق التاريخيّة فيصبح تاريخ الأدب فرعًا من التاريخ العام.

هذا وقد حفل التراث النقدي العربي بكثير من المقولات النقدية، التي يمكن أن تدرج في إطار هذا المنهج، وإن جاءت في صورة جزئية تمثل طبيعة العصر الذي قيلت فيه. فمن ذلك على سبيل المثال: (تعليل ابن سلام الجمحي  لشعر عدي بن زيد، وسهولة منطقه بأنه: “كان يسكن الحيرة ويراكز الريف”. وتفسيره لقلة الشعر في مكة والطائف بقلة الحروب، فهو يقول: “وبالطائف شعراء وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا”.). (39).

خامسًا: النقد النفسي:

لقد كان غرض هذا المنهج البحث عن سيكلوجيا المبدع من خلال أثره الأدبي الذي تركه عبر اتجاهات عديدة، فهي تارة تحلل أثرًا معينًا من الآثار الأدبيّة، لتستخرج من هذا التحليل بعض المعلومات عن سيكلوجيّا المؤلف.

وهي تارة أخرى تتناول جملة آثار المؤلف وتستخرج منها نتائج عامة عن حالته النفسية، ثم تطبق هذه النتائج العامة في توضيح آثار بعينها من آثاره .

وهي تارة تتناول سيرة كاتب من الكتاب على نحو ما تظهر من أحداث حياته الخارجيّة، وفي أمور أخرى كرسائله واعترافاته أو يومياته الشخصية ثم تبني من هذا كله نظرية في شخصيّة الكاتب : صراعاته، حرماناته، صدماته، عصاباته، لتستعمل هذه النظريّة في توضيح كل مؤلف من مؤلفاته.  وهي تارة أخرى تنتقل من حياة المؤلف إلى آثاره، ومن آثاره إلى حياته، موضحة هذه بتلك، وتلك بهذه. وهي في أكثر الأحوال تجمع بين هذه الأغراض كلها، وتستعمل هذه الأساليب جميعها…

ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض أمثلة تطبيقات هذا المنهج في القديم, يقول ابن قتيبة: (وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب. ويقول أبي هلال العسكري في بيان أثر الحالة النفسية في قوة الشعر أو ضعفه: “إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطِر معانيه ببالك، وتذوق له كرائم اللفظ. واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقل عنك غناؤها.). (40).

سادسًا: الاتجاه الذاتي في النقد:

وهو ما يعرب فيه الناقد عما يحسه ويتأثر به حين يقرأ عملا أدبيا، معتمداً فى حكمه عليه بالجودة والرداءة, أي على ما ينطبع فى نفسه حين يواجه هذا النص، لا على مقاييس موضوعيّة أو قواعد معينة، فهو إذن يقابل النقد الموضوعي.

وقد عرف نقاد العرب هذا اللون من النقد وسموه (النقد الإقناعي) فها هو ذا “ابن الأثير” في كتابه (المثل السائر) يقول: (وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال: أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها، وأما الأخطل: فأشدّنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر.) وسئل “أبو عمرو بن العلاء” عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحداً من الجاهليّة ما قدمت عليه أحدا). (41). وهذا اللون من النقد كان سائداً فى الأدب العربى القديم كما بينا في مواقع سابقة, حيث كان الناقد آنذاك يصدر حكمه النقدي عن إحساس ذاتي بالأثر الأدبي، وتذوق فطري له معتمداً على أصالة عروبته، وسلامة ملكته ونقاء فطرته وصفاء طبعه.

سابعاً: النقد السلبي المتعصب :

لا شك أن هناك صلة وثيقة بين الأديب والناقد فيجب على الناقد أن يبين جوانب الحسن ومواطن الرداءة، وأن ينأ بنقده عن الميل والهوى، فلا يقتصر على كشف جوانب القبح أو يميل عن المهمة السامية للنقد الأدبي وله أن يخالف الأديب فى رأيه إن كان هناك ما يوجب المخالفة.

وقد أشار “ابن قتيبة” إلى التزام الناقد العدل فى حكمه فيقول: (ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلّد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلاً حظه ووفرت عليه حقه”).(42). فابن قتيبة يوصى هنا الناقد بأن يلتزم العدل فى حكمه، والحيدة فى رأيه، والاحتكام إلى ذوقه النقدي السليم الذى لم يفسده التعصب ولم يتأثر بالأهواء والميول الشخصية.

وفى تاريخ النقد العربي ما يدل على أن بعض النقاد لم يلتزم بما أشار إليه ابن قتيبة، فاستسلم لنوازع نفسه وانقاد لهواه، وتعصب لشاعر بعينه أو عليه، فجاءت أحكامه النقدية بعيدة عن الصواب والجادة، وأتت آراؤه ولمحاته غير موضوعية تعوزها الدقة، (وهذا ما فعله أبو بكر الصولى فى كتابه (أخبار أبى تمـام) حين أسرف فى تعصبه لأبى تمام، وفعل ذلك الحاتمي مع المتنبي حيث تحامل عليه تحاملاً شديداً.). (43).

لاشك أن هذا اللون من النقد يفقد قيمته، لأنه نأى عن الصواب والعدل فى الحكم والتقويم وجنح إلى التعصب والتحامل، وانقاد إلى الأهواء والنزعات والميول الشخصية التي أبعدته عن الحيدة فى التقويم، وعن التمسك بالأصول النقدية القويمة.

ثامناً: الاتجاه الفلسفي في النقد العباسي:

تتضح الإفادة من النقد اليوناني في أي أثر من آثار التفكير البلاغي والنقدي عند العرب في كتاب, (“نقد الشعر” لقدامة بن جعفر”,(ت337هـ)، الذي كان نصرانيًّا وأسلم ثم كان أحد النقلة والمترجمين لآثار اليونان في المنطق والفلسفة وقد أتاح له ذلك خبرة طويلة بمذاهب اليونان في الأدب والنقد، وكان من الطبيعي أن تظهر آثار هذه المعرفة في كتابته عن الشعر العربي ونقده. فلا ريب في أن الثقافة اليونانيّة كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر؛ فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء، وله كتاب في صناعة الجدل، ويدل كتابه “في الخراج” على ثقافة عالية)..(44).

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333@gmail.com

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 7.

2- المرجع نفسه – عبد العزيز العتيق – ص8.

3-  مدونات الجزيرة نت نظرة عامة في النقد الأدبي – عبدالحميد المدري.

4- .  رشيد العبيدي، الأدب ومذاهب النقد فيه، ص 98 ط الأولى، 1955.

5-  للاستزادة في ذلك راجع– الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 – ص 5 و6.

6- موقع الأدب العربي – نشـأة النقـد العربـي القديــم بين الممارسة والتأريخ.  السيدة بشرى تاكـفـراست. ) بتصرف.

7- المرجع نفسه. ؤتصرف.

8- المرجع نفسه. بتصرف.

9-  طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، ص 6، ط دار الحكمة – بيروت، لبنان.). بتصرف.

10- الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972 ص34-35- 36. ). بتصرف

11- المرجع نفسه: ص 49.

12- المرجع نفسه: ص58.

13- للاستزادة في هذا الموضوع يراجع – الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105.

14- المرجع نفسه: ص113

15- المرجع نفسه: ص129

16 – المرجع نفسه: ص139.

17- المرجع نفسه: ص120.

18- المرجع نفسه: ص122.

19- المرجع نفسه: ص123.

20- تاريخ النقد الأدبي والبلاغة د/ محمد زغلول سلام ص85.

21- دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد ص44..

22- ). النقد الأدبي – ظهر الإسلام 2 / 421 للاستاذ أحمد أمين.).

23-  ). موقع المرسى – (النقد في العصر الأموي في بيئة العراق). بتصرف.

24- موقع سطور – (النقد في العصر الأموي – أنس محفوظ).

25- د/ محمد أحمد العزب – عن اللغة والأدب والنقد ص282، وراجع أيضاً النقد الأدبي لأحمد أمين 424 وما بعدها.).

26- موقع سطور -) النقد في العصر الأموي) – أنس محفوظ.

27- – الدكتور عبد العزيز عتيق – تاريخ النقد الأدبي عند العرب – دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر –بيروت – 1972.   ص 105. ص191.

28- المرجع نفسه: ص192.

29 – المرجع نفسه: ص 195.

30- المرجع نفسه: ص214. بتصرف.

31- المرجع نفسه: ص271

32- للاستزادة في هذا الاتجاه – يراجع – موقع هنداوي – (النقد في العصر العباسي -).

33- المرجع نفسه: ص 176 و 177.

34- المرجع نفسه: 296.

35- موقع كنانة أون لاين –  – إ.د/صبري فوزي أبوحسين  (اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي).

36- المرجع نفسه.

37 -(اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي -إ.د/صبري فوزي أبوحسين – موقع كنانة أون لاين .). (كذلك يراجع موقع – موقع الدكتور عبد الحميد هنداوي – المناهج النقديّة -).

38-0 المرجع نفسه.

39- المرجع نفسه.

40- المرجع نفسه.

42- المرجع نفسه.

43- المرجع نفسه.

44- المرجع نفسه.

45- المرجع نفسه.

شاهد أيضاً