قراءة إمبريقية في مديح الصلابة الروحية ورفض التخاذل:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين

إنّ الحديث عن “القوة” ليس امتداداً سطحياً لمعنى العنف أو الجبروت أو الغلبة البدنية، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، بل هو تعبير عميق عن بنية داخلية تتكوّن من عناصر الوعي، والصبر، والإيمان بالمعنى، والقدرة على المثابرة في وجه العبث. إنّ الأقوياء حقاً – كما تشير الفكرة المركزية التي نرتكز عليها – هم أولئك الذين لا يتسرّب الضعف إلى نفوسهم، ولا تخور عزائمهم أمام العواصف، لأنهم يدركون بحدسٍ وجودي أنّ التخاذل لا يمنحهم نصراً على الأرض، ولا يوصلهم إلى السماء.

_ القوة كخيار وجودي لا كأداة ظرفية:
الفرد الذي يختار أن يكون قويًّا لا يفعل ذلك تشبّهاً أو بحثاً عن تفوّق زائف، بل لأنه يرى الوجود مواجهةً متواصلة مع الألم والخوف والمجهول. وفي هذا السياق يمكن أن نستحضر أطروحات فريدريك نيتشه، الذي رأى في “إرادة القوة” محرّكاً أصيلًا للحياة، ولكن بمعناها الفلسفي العميق، حيث تكون القوة قدرةً على تحمّل الحياة، لا سيطرةً على الآخرين.
القوة ليست عدواناً، بل قدرة على عدم الانكسار. وهي ليست تجاهلًا للعجز، بل انتصارٌ عليه. فالقويّ ليس من لا يشعر بالضعف، بل من لا يسمح له بأن يقرّر مصيره.

_ التخاذل كفقدان للمعنى:
إنّ التخاذل لا يعني مجرد فشل أو انسحاب، بل يعني – في جوهره – خيانة الإنسان لذاته، ولنبل معركته، ولإمكاناته الكامنة. فالمتخاذل يتنازل عن معنى وجوده، ويستبدل المسار بالخمول، والحلم بالتبرير، والحياة بالركود. وهنا يمكن أن نستدعي ألبير كامو، الذي رأى أنّ الإنسان المتمرّد هو من يرفض العبث بالصمت، ويصوغ من رفضه معنى يقاوم به العدم.
التخاذل، في بُعده العميق، شكلٌ من أشكال الموت المعنوي. إنّه فقدان الصلة بين الفعل والإيمان، وبين الإرادة والكرامة.
_القوة الأخلاقية والسمو الروحي:

ثمّة من يظن أنّ القوة قسوة، لكن الحقيقة أنّ أعظم أشكال القوة تنبع من الرحمة، ومن السموّ على الأذى، ومن القدرة على الغفران دون أن يكون ذلك ضعفًا. فكما يرى غاندي: “اللاعنف هو سلاح الأقوياء”، لأنّ الضعيف لا يقدر أن يغفر، ولا أن يسمو.
إنّ القويّ لا يبحث عن نصر زائل، بل عن نصر يعبُر من الأرض إلى السماء، نصرٍ لا يُقاس بالفتوحات، بل بفتوحات النفس. في هذا السياق يمكن فهم فكرة “النصر السماوي” كرمز للترقّي الوجودي، للسموّ عن الغرائز الدنيا، ولتحقيق السلام الداخلي.
_ بين البطولة والصمت:
في زمنٍ يفيض بالضجيج والمظاهر، يصبح الصمت مقاومة. فالأقوياء لا يصرخون، ولا يحتاجون أن يثبتوا شيئًا لأحد. إنهم يعملون في صمت، ويصمدون في العزلة، ويتحوّلون – كما قال خوسيه أورتيغا إي غاسيت – إلى رجالٍ في زمن الأقزام، لا لأنهم يسعون إلى الهيمنة، بل لأنهم يحملون ثِقل الحقيقة والمعنى.
القوة الحقّة لا تُعلن عن نفسها، بل تُرى في لحظات الانهيار حين لا ينهار صاحبها. تُرى في اتزان الموقف، وفي البصيرة، وفي استشراف ما وراء الألم.
الصبر وجهًا من وجوه القوة
الصبر ليس خنوعًا، بل استعدادٌ للمكوث في وجه الإعصار دون أن تتزعزع الجذور. وكما قال ابن سينا: “العاقل هو من يملك نفسه عند الشدائد”. فالصبر هو جذر القوة الأخلاقية، وهو ما يميّز القويّ عن الضعيف، لأنّ الأول يرى ما بعد اللحظة، بينما الثاني يغرق فيها.
القويّ، في هذا الإطار، يشبه الجبل؛ قد تعصف به الرياح، وقد يعلوه الثلج، لكن جوهره لا يتزحزح.
_ نحو أخلاقيات القوة:
في ضوء ما تقدّم يمكن القول إننا بحاجة إلى إعادة تعريف القوة ضمن أفق فلسفي يحرّرها من شوائب العنف والتسلّط، ويُعيدها إلى معناها الأنطولوجي. فالقويّ هو من لا يخون ذاته، ولا يستبدل الشجاعة بالخوف، ولا يستسلم لضغط العالم.
ولعلّ في وصية ماركوس أوريليوس لنفسه ما يلخّص هذا كله: “كن مثل الصخرة، تتكسّر عليها الأمواج، فتظل ساكنة”.
خاتمة: في تمجيد الإنسان الذي لا ينهار.
ما يحتاجه العالم اليوم ليس المزيد من القوة المادية، بل من القوة الروحية. يحتاج إلى أفرادٍ لا ينهارون عند أول عاصفة، ولا يتخاذلون أمام قبح الواقع، بل ينهضون، يتقدّمون، ويصنعون من الألم معنى.
هؤلاء هم الذين لا يتطرّق الضعف إلى نفوسهم، لأنهم أدركوا أنّ التخاذل لا يمنحهم نصرًا على الأرض، ولا يوصلهم إلى السماء.