قراءة تحليلية في إعلان حركة حماس حول “طوفان الأقصى” بين الأهداف المعلنة والنتائج المتحققة.. وأثمان الكارثة

بقلم/ عبد الفتاح دولة

مقدّمة
في خضمّ واحدة من أعظم الكوارث الوطنية والإنسانية التي حلّت بالشعب الفلسطيني منذ النكبة على يد أطول احتلال في التاريخ، أعلنت حركة حماس روايتها الرسمية لما أسمته “طوفان الأقصى”، في وثيقة من 36 صفحة، سعت من خلالها الحركة إلى تفسير دوافع الهجوم، وتوصيف يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وتعداد ما تعتبره إنجازات ونتائج، ورسم أولوياتها للمرحلة المقبلة.

لا تأتي أهمية هذه الوثيقة من حجمها أو توقيتها فقط، بل من كونها أول إعلان سياسي شامل لحماس بعد الكارثة، ومحاولة لتثبيت سردية خاصة بها في لحظة تاريخية يُعاد فيها تشكيل وعي العالم بالقضية الفلسطينية، وتُعاد فيها صياغة خرائط الدم والجغرافيا والسياسة على مستوى المنطقة.
هذه القراءة لا تهدف إلى مناكفة سياسية، ولا إلى تسجيل موقف فصائلي، بل تنطلق من سؤال مركزي واحد: هل تتطابق الأهداف التي أعلنتها حماس مع النتائج التي ترتبت على “الطوفان”؟ وهل ما تحقق يخدم الشعب الفلسطيني وقضيته ومستقبل دولته، أم يفاقم خسائره ويقوّض منجزاته؟

أولاً: مقارنة جوهرية بين الأهداف والنتائج
لطالما كانت حماس، مطالبة بالإفصاح عن أهداف “الطوفان”. واليوم، وبينما ما زال الشعب الفلسطيني يعيش تحت القصف، والنزوح، والجوع، والدمار الشامل، تأتي الأهداف متأخرة، وتُعرض النتائج بوصفها إنجازات كبرى.
غير أن القراءة الهادئة، غير المؤدلجة، تُظهر فجوة عميقة بين ما قيل إنه دافع للهجوم، وما ترتب عليه فعلياً، بل إن كثيراً من النتائج جاءت نقيضاً مباشراً للأهداف المعلنة.

ثانياً: قراءة نقدية في دوافع الهجوم كما أعلنتها حماس
1. جرائم الاحتلال منذ عام 1948
جرائم الاحتلال حقيقة ثابتة، وهي جوهر الصراع منذ النكبة. لكن السؤال الجوهري: هل أوقف “الطوفان” هذه الجرائم؟
ما جرى بعد السابع من أكتوبر يُعدّ أوسع وأبشع جريمة جماعية متواصلة بحق الشعب الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة، لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً من حيث حجم الإبادة، والتدمير، والتجويع، والإعتقال، ومحاولات الإقتلالع والتهجير.
لم تتراجع جرائم الاحتلال، بل انفجرت إلى مستوى غير مسبوق، وبغطاء دولي أوسع، وتحت ذريعة “الدفاع عن النفس”.

2. فشل مشروع السلطة الوطنية الفلسطينية
تصف حماس السلطة الفلسطينية كمشروع فاشل، متجاهلة أنها أحد أهم منجزات النضال الوطني الفلسطيني، والأساس السياسي والقانوني لتجسيد الدولة الفلسطينية، بما راكمته من اعتراف دولي، ومؤسسات، وبناء، وعضوية في المنظمات الدولية.
بعد “الطوفان”، لم تتعزز مكانة السلطة، بل تعرضت لمحاولة تقويض وتصفيات سياسية ممنهجة، لأن الاحتلال يرى فيها عنوان السيادة الفلسطينية. الأخطر أن حماس لم تعمل على حماية هذا المنجز، بل واصلت خطاب التشكيك والتخوين، وأسهمت عملياً في إضعاف الركيزة التي تقوم عليها الدولة الفلسطينية، في وقت يحتاج فيه المشروع الوطني إلى أقصى درجات التماسك لا التفكيك.

3. التطرّف الإسرائيلي
لم يكن التطرّف الإسرائيلي وليد “الطوفان”، لكنه توحّش وتحرّر من كل قيوده بعده. أُعيد إحياء أخطر مشاريع الصهيونية:
“إسرائيل الكبرى”
“الدولة اليهودية الخالصة”
تسليح المستوطنين
التوسع الاستيطاني، والعودة لإقامة المستعمرات التي تم افراغها والإنسحاب منها.
شرعنة القتل والطرد والضم.
لقد وفّر “الطوفان” الذريعة الذهبية لحكومة الاحتلال الأكثر تطرفاً في تاريخها لتنفيذ مشروع تصفية القضية الفلسطينية على الأرض.

4. الغليان في غزة
كانت غزة تغلي، نعم، لكنها كانت حيّة. غزة التي صنعت الأمل تحت الحصار، تحولت اليوم إلى ركام شامل، بلا بنية، بلا أفق، بلا حياة. شعبها نازح في خيام لا تقي حراً ولا برداً، ولا تحمي من المطر ولا القصف.
والأهم: أن الغضب في غزة لم يكن فقط ضد الاحتلال، بل أيضاً ضد قبضة داخلية قاسية عانى منها الشعب سنوات طويلة، من قمع وفقر وانسداد أفق.

5. فشل المجتمع الدولي
فشل المجتمع الدولي حقيقة قديمة، لكن: هل تجاوزه بعد “الطوفان”؟
لم يوقف الإبادة.
لم يُدخل المساعدات الكافية.
لم ينفّذ قراراته.
لم يحمِ القانون الدولي.
بل إن عجزه بات أكثر فجاجة وانكشافاً، ودفع الشعب الفلسطيني ثمن هذا الفشل مضاعفاً.

6. معاناة الأسرى
لم يمرّ على الحركة الوطنية الأسيرة زمن أشد قسوة مما يعيشه الأسرى بعد “الطوفان”:
تعذيب حتى الموت
تجويع
إعدامات ميدانية
أمراض وإهمال طبي
اغتصاب وانتهاكات
لم “تُبيّض السجون” كما كان الوعد، وتحول الأسير الى مبعد، وبقيت أسماء وقامات نضالية خارج أي صفقة. بل لم تُطرح حتى شروط إنسانية في مفاوضات الصفقة بوقف التنكيل وإعادة أوضاع الأسرى إلى ما كانت عليه بكل قسوتها السابقة “للطوفان”.

7. استمرار طريق الثورة
الطريق إلى الثورة لا يُقاس بالشعارات، بل بالنتائج. واليوم نسمع عن:
تفاوض على السلاح وطرح بتخزينه وضمان عدم استخدامه.
ضمان أمن المستوطنات.
مقاتلين تُركوا للموت في الأنفاق.
ما يطرح سؤالاً مؤلماً: أي ثورة هذه التي تنتهي بحراسة أمن المستوطنات، لا بتحرير الأرض؟

* ثالثًا: في النتائج المعلنة.. والواقع القاسي
تسرد حماس عشرات “الإنجازات”: عزلة “إسرائيل”، سقوط الردع، صعود السردية الفلسطينية، الاعترافات الدولية..
لكن الوقائع تشير إلى:
غزة تحت احتلال مباشر كامل.
مشاريع وصاية وانتداب مطروحة.
محاولات لفصل غزة عن الضفة.
إحياء حلول مجتزأة وهدن طويلة بدل الدولة.
تعميق الانقسام السياسي والجغرافي.
القدس في أخطر مراحل التهويد والطرد.
أما الاعترافات الدولية، فـ149 دولة كانت تعترف بفلسطين قبل الطوفان، وما تحقق لاحقاً هو نتيجة الدم الفلسطيني وجهد دبلوماسي تقوده دولة فلسطين، لا نتيجة هجمة عسكرية.
نعم، هناك تعاطف شعبي عالمي غير مسبوق، لكنه تعاطف مع الضحية، لا مع الفعل، ومع الشعب لا مع التنظيم.

رابعاً: معنى النصر.. ومعنى الصمود
كان ينبغي على حماس أن تقدّم مراجعة حقيقية شجاعة، لا وثيقة تبريرية. كان عليها أن تحترم شعبها، لا أن تختزل تضحياته في تثبيت وجودها ولو على جزء من القطاع.
النصر، في الوعي الوطني الفلسطيني، ليس البقاء التنظيمي، بل:
الحرية
التحرير
الدولة
الاستقلال
علينا أن نفرّق بوضوح بين: صمود شعب لا يُهزم ولا ينكسر ولا يرحل
وبين نصر سياسي ووطني لم يتحقق.
فالشعب صمد..
أما علامات النصر، فما زالت غائبة،
وثمن ما حصل، ما زال يُدفع كل يوم، من لحم الفلسطيني وبيته ومستقبله.

فما الذي كان مطلوباً بعد كل ذلك؟
لا يحتاج الشعب الفلسطيني اليوم إلى مزيد من السرديات التبريرية، ولا إلى إعادة توصيف الكارثة بوصفها إنجازاً، بل إلى شجاعة الاعتراف بمواطن الإخفاق، وتحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية عمّا آلت إليه الأوضاع.
المطلوب من حركة حماس ليس عرض رواية أحادية، ولا التمسك بعقلية التفرد والبديل، ولا اختزال القضية الفلسطينية في تنظيم أو جغرافيا أو سلاح، بل الإقرار بأن الشأن الفلسطيني لا يُدار إلا بعقلية الشراكة الوطنية، وأن طريق التحرر لا يُبنى خارج الإجماع، ولا على أنقاض المشروع الوطني، ولا فوق جراح شعبٍ أنهكته الحروب والانقسامات.
لقد أثبتت التجربة، بكل قسوتها، أن المشروع الوطني التحرري الشامل هو وحده القادر على حماية الشعب الفلسطيني، وصون تضحياته، وتحويل صموده إلى إنجاز سياسي حقيقي. وهذا المشروع لا يمكن أن يكون إلا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وحاضنته الوطنية والسياسية الجامعة، والمرجعية التي راكمت الاعتراف الدولي والشرعية القانونية لنضاله وحقوقه.

إن الحالة الفلسطينية، بما وصلت إليه من دمار وانقسام واستهداف شامل، تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى موقف وطني جامع، وإلى إعادة الاعتبار لبرنامج نضالي موحّد، في ظل:
نظام سياسي واحد،
قانون واحد،
جغرافيا فلسطينية واحدة موحّدة،
مؤسسة مدنية وأمنية واحدة،
وسلاحٍ مُسيَّس، يعرف دوره، وحدوده، وطريقه، ومكانه ضمن الاستراتيجية الوطنية، لا خارجها.

فالصمود الشعبي، مهما بلغ، لا يكفي وحده لصناعة النصر، إن لم يُترجم ضمن رؤية وطنية جامعة تقود إلى الحرية والاستقلال والدولة. أما تحويل الكارثة إلى محطة مراجعة وطنية شاملة، فليس ضعفًا، بل شرطٌ للإنقاذ، وبوابةٌ لإعادة بناء المشروع الوطني على أسس الوحدة، لا المغامرة؛ وعلى الشراكة، لا التفرد؛ وعلى الدولة، لا الفوضى.