تعكس التصريحات المنسوبة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بشأن غزة توجّهًا سياسيًا–أمنيًا لإدارة مرحلة ما بعد الحرب، أكثر مما تعبّر عن رؤية لحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
فهي تنطلق من مقاربة تختزل غزة في بعدها الأمني والإنساني، وتتعامل معها كملف يجب ضبطه واحتواؤه، لا كجزء من قضية تحرر وطني جوهرها الاحتلال وغياب السيادة.
القول إن «ملف غزة على رأس الأولويات» لا يعني أولوية الحقوق الفلسطينية، بل أولوية أمن إسرائيل ومنع إعادة تشكّل أي تهديد مستقبلي.
ومن هذا المنطلق، يُعاد تعريف غزة باعتبارها مشكلة أمنية تتطلب ترتيبات خاصة، لا باعتبارها أرضًا محتلة لها حقوق سياسية وقانونية ثابتة.
وفي السياق نفسه، يأتي الحديث عن «إعادة إعمار قريبة» بوصفه وعدًا مشروطًا، لا التزامًا قانونيًا أو أخلاقيًا تجاه شعب تعرّض لتدمير واسع النطاق. فالإعمار، وفق الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية، يُربط بنزع سلاح المقاومة، وتغيير البنية السياسية والإدارية في القطاع، وقبول ترتيبات خارجية لإدارته، ما يجعله إعمارًا هشًا، قابلًا للانهيار ما دام الحصار قائمًا والسيادة غائبة.
التركيز على استعادة جثة الرهينة الإسرائيلية الأخيرة يكشف بوضوح ازدواجية المعايير في الخطاب الغربي، حيث تُمنح حياة الإنسان الإسرائيلي، وحتى بعد موته، أولوية مطلقة، بينما يُغيَّب آلاف الشهداء والمفقودين الفلسطينيين عن أي اعتبار إنساني أو قانوني.
هذه الانتقائية لا تمثل خللًا أخلاقيًا فحسب، بل تُستخدم لتبرير سياسات قائمة على القوة وتجاهل مبادئ العدالة الدولية.
أما طرح فكرة قوة دولية في غزة، مع إشراك أطراف إقليمية مثل تركيا، فيعكس توجّهًا نحو تدويل إدارة القطاع أمنيًا، لا نحو تمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم.
هذا النموذج لا يقدّم حلًا سياسيًا، بل يسعى إلى تجميد الصراع وإدارته، ويكرّس واقع الوصاية بدل السيادة، ويُبقي جذور الأزمة قائمة دون معالجة.
تبقى مطالبة ترمب بـ«نزع سلاح حماس بالكامل» الركيزة الأساسية في هذا الطرح، وهي مطالبة لا تستهدف الحركة وحدها، بل مفهوم المقاومة ذاته، من خلال تقديم السلاح باعتباره سبب الصراع، لا نتيجة مباشرة للاحتلال والحصار وانسداد الأفق السياسي. نزع السلاح دون إنهاء الاحتلال لا يفتح طريق السلام، بل يعمّق الاختلال في موازين القوة ويؤسس لمرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
على مستوى الأثر، فإن تطبيق هذه الرؤية من شأنه أن يدفع غزة نحو التحول إلى كيان منزوع السيادة، يُدار أمنيًا ويُحاصر اقتصاديًا تحت غطاء إنساني، مع استمرار فصلها سياسيًا عن الضفة الغربية.
وهو ما يضعف المشروع الوطني الفلسطيني، ويقوّض فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة، ويحوّل القضية إلى ملف إغاثي–إداري طويل الأمد.
أما حركة حماس، فتواجه في ظل هذه التطورات مأزقًا سياسيًا وإداريًا غير مسبوق، نتيجة الاستنزاف العسكري والعزلة السياسية وفشل نموذج الحكم في ظل الحرب والحصار.
ومع ذلك، فإن إحتمال الإقصاء الكامل يبقى صعب التحقيق دون حرب طويلة ومفتوحة، فيما يبدو احتمال التحجيم السياسي والإداري أكثر ترجيحًا، ما لم تُقدم الحركة على مراجعة شاملة لتجربتها، وتنخرط في إطار وطني فلسطيني جامع يعيد الاعتبار لوحدة القرار والتمثيل.
خلاصة القول، إن ما يُطرح اليوم لا يرقى إلى مستوى الحل، بل يمثل محاولة لإعادة هندسة الصراع وفق معادلة:
تهدئة بلا سيادة، إعمار بلا حرية، وأمن بلا عدالة. وهي معادلة أثبتت التجربة أنها لا تنتج استقرارًا، بل تؤجّل الانفجار وتراكم أسبابه.







