قصة “صاحب السمك” في المغرب!

خديجة نجاح*

في عصر تتسارع فيه التفاعلات الرقمية وتتداخل، أصبح لمنصات التواصل الاجتماعي دور محوري في تشكيل مفاهيم المجتمع وتوجيه الوعي الجمعي.

فهذه المنصات التي بدأت بفضاءات للتواصل الاجتماعي البسيط، تحولت إلى أداة فعالة تسهم في تغيير الواقع وفي تشكيل الوعي الجمعي للأفراد والجماعات.

ومن بين الأمثلة التي شهدناها أخيرا ما فعله شاب مغربي اسمه عبد الإله، ينحدر من مدينة مراكش، وعُرف بوصف “مول الحوت” أي صاحب السمك. ففي حدث لافت، شحذ الشاب سلاح العالم الرقمي لكشف ممارسات المضاربين الذين استغلوا حلول شهر رمضان، ورفعوا أسعار السمك بشكل غير مبرَّر.

ومن المعروف عن المغاربة في هذا الشهر الفضيل تزيين موائدهم بأنواع مختلفة من الأسماك، وعلى رأسها سمك السردين أو ما يُعرف عندهم بغذاء الفقراء.

وعلى مدى أسابيع، تحولت مبادرة الشاب عبد الإله الفردية إلى رسالة جماعية تعكس تأثير منصات التواصل الاجتماعي في تشكيل “العقل الجمعي” المحرك للمجتمع في اتجاه التغيير، وهي قضية سبق لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم طرحها ومناقشتها في دراساته نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

الشاب العشريني لم يستخدم أدوات التواصل الاجتماعي لطرح مشكلة فقط، بل جعلها منصة لحث المواطن المغربي على الوعي والمشاركة في تغييره، والتمرد على المضاربين الجشعين.

من فرد إلى قائد وعي جماعي
من خلال إطلالاته اليومية عبر مقاطع الفيديو، وتدويناته التي يشاركها عبر منصات تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، قدَّم هذا الشاب دلائل حية، كشفت كيف أن المضاربين هم من يقفون خلف ارتفاع أسعار السمك، الأمر الذي يؤدي إلى الإضرار بالقدرة الشرائية للمواطنين، إذ إن الثمن الحقيقي للكيلوغرام الواحد من سمك السردين مثلا لا يتعدى بضعة دراهم (أقل من نصف دولار) مقابل بقية الباعة الذين كانوا يبيعون هذا الصنف من السمك بثمن يصل إلى ثلاثة دولارات. وقِس على ذلك بقية أنواع الأسماك الأخرى التي قد لا يعرفها عموم المواطنين بل يسمعون أسماءها متداولة في السوق فقط، وهي المبادرة التي جعلت السلطة تتفاعل معها سلبيا حيث أغلقت محل بيعه، قبل أن تتدارك الأمر وتعيد فتحه بعد ارتفاع موجة التعاطف الشعبي معه داخل المغرب وخارجه.

مبادرة الشاب عبد الإله بنشر المعلومة أدت إلى تفاعل المواطنين والاصطفاف معه، للتصدي لعمليات التضييق والترهيب التي تعرَّض لها بسبب حملته ضد جشع تجار السمك ومحاربة الفساد، ومن ثَم خفض سعر هذا الغذاء الحيوي عند المغاربة.

وبعد انتشار المبادرة واتساعها وتحوُّلها إلى فعل شعبي كبير، دخلت السلطات على الخط في محاولة منها لاستيعاب الحدث وتطويقه، ومنع امتداداته ليمس سلعا أساسية أخرى يكثر طلب المواطن المغربي عليها في شهر رمضان مثل اللحوم الحمراء والبيضاء وغيرها.

الأمر الذي جعل من تلك الحملة حركة شعبية وإعلامية تتجاوز مجرد تصرُّف فردي لشاب نزق، كما حاولت بعض دوائر المضاربين والسلطة تصويرها في البداية، لتشكل تجسيدا حقيقيا لقدرة منصات التواصل الاجتماعي إذا استُثمرت بشكل جيد على صياغة وعي جماعي وتحفيزه للعمل، ودفعه نحو نشر القيم الاجتماعية التي ترفض الاحتكار والريع وكل الممارسات غير الأخلاقية التي تمس المواطن في معاشه وقوته اليومي خاصة في شهر رمضان المبارك.

العقل الجمعي وقيادة التغيير
كشفت الدراسات الاجتماعية أن الثبات ليس من صفات العقل الجمعي، وأكدت أنه يخضع باستمرار للتطوير والتغير من خلال تفاعله مع المتغيرات الثقافية والتقنية وكذلك السياسية، إذ تتبدل المعتقدات والقيم المشتركة مما يُحدث تغيرا في السلوك الاجتماعي، ونتيجة لذلك يقوم العقل الجمعي باجتراح التحولات الاجتماعية الكبرى وقيادتها على مستويات عدة، ويتمثل ذلك في ما يحدث من ثورات لتغيير الأنظمة أو في مواجهة الفساد الاقتصادي والاجتماعي.

كما يمكنه القيام بحملات تفقدية لنشر القيم وتوجيه سلوك المجتمع نحو تجاوز سلبيات الكثير من السلوكيات الضارة به وبتقدمه ونهضته.

وحسب نظرية إميل دوركايم، فإن “العقل الجمعي” بمنزلة كائن غير مرئي يسيّر المجتمع ويتحكم فيه، بحيث لا يستطيع الناس مواجهته أو التمرد عليه إلا بصعوبة كبيرة، وهي اللحظة التي تُحدث التحول الكبير داخل المجتمع، أو تُحدث تحولا مهمّا يصبح بعد تراكمه تحولا كبيرا ونوعيا داخل المجتمع. وكذلك بالنسبة للفضاء الافتراضي الذي أحكم قبضته على عقول مستخدميه، وتحوَّل إلى كائن غير مرئي يتحكم في توجهاتهم ويشكل وعيهم، لذا أصبحت منصات التواصل الاجتماعي في عصرنا الحالي الفاعل الأساس والمحرك للعقل الجمعي.

ختاما
شكلت تجربة الشاب العشريني عبد الإله الجعويط، الذي عُرف باسم “مول الحوت”، في محاربة الجشع وارتفاع سعر السمك في عاصمة المرابطين تجربة مثيرة في السياق المغربي، وأحدثت رد فعل كبيرا داخل المغرب وخارجه، وانعكست ارتداداتها هزة في أثمان الأسماك المفضلة لدى المغاربة خاصة في شهر الصيام، بل تجاوزت ذلك فأحدثت تراجعا في أسعار أنواع اللحوم الأخرى، مستثمرا في ذلك لغة شعبية بسيطة مرَّرها عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وأصبح نجما أول داخل المجتمع المغربي، استطاع التأثير في قضية لم تستطع أحزاب ومنظمات التأثير فيها، مؤكدا الدور المهم لهذه المنصات وتأثيرها الفاعل في المجتمع وخاصة فئاته الشابة والنشطة التي يمكنها صناعة التغيير والإسهام في انتشاره.

وعلى هذا الأساس، يمكن لهذه التجربة أن تكون درسا مفيدا للفاعلين في المجتمع المدني من أحزاب وهيئات، للعمل على استثمار قوة هذه المنصات من أجل نشر القيم الإيجابية داخل المجتمع، وفي مقدمتها محاربة الفساد والجشع والريع، والدفاع عن قيم العدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية، وتعزيز مفاهيم الحرية، والعمل على ترسيخ وعي جماعي يسهم في بناء مجتمع أكثر تقدما وعدلا.

*كاتبه وصحفية من المغرب
المصدر : الجزبرة مباشر