ثمة قضايا شائكة تطفو على سطح الأحداث في العراق، متجاوزة أكوام فضائح لم يعد بإمكان المتابع الخوض فيها، لأنها أصبحت جزءاً ثابتاً من متلازمة النكد التي كُتب على هذا البلد أن يعيشها منذ وقع في أسر احتلالَيْن لا أشدّ منهما ولا أمرّ. وفي نهاية هذا العام، تُرحَّل تلك القضايا إلى العام الجديد، لعلّه يسعفنا بحلول ناجعة لها. أولاها، عملية تفكيك المليشيات العراقية التي لا تزال بين شدٍّ وجذب. يريدها الأميركيون أن تتم من دون إبطاء، وأن يكون “التفكيك” شاملاً مليشيات “الحشد الشعبي”، وكاملاً إلى الحدّ الذي يُحاسَب فيه زعماؤها عمّا ارتكبوه من جرائم، وأن يعيدوا ما نهبوه من أموال. فيما تقاوم إيران هذا التوجّه لأنّها هي مَن صنعتها، وهي مَن خطّطت لكي تكون المليشيا من حلقات منظومتها الأمنية، وخطّ الدفاع المتقدّم في مشروعها الإقليمي الشرير. وحيث تأكّد إصرار الأميركيين على “التفكيك”، شرع وكلاء طهران في البحث عن حلّ يضمن بقاء تلك المليشيات على نحوٍ أو آخر، فاخترعوا فكرة دمجها مع القوات النظامية، ومنهم من اقترح تسليم السلاح إلى الدولة شرط ضمان حماية زعماء المليشيات، وعدم خضوعهم لأي مساءلة قانونية عن الجرائم التي ارتكبوها.
وإذا ما عُمل بهذا المقترح سيتحوّل أولئك “الزعماء” إلى قادة سياسيين فاعلين، بعدما اخترقوا جسد الدولة ومؤسّساتها المهمّة، كما هيمنوا على القضاء والفضاء الإعلامي. وبالطبع، فإن حلولاً مبتسرة كهذه ستُبقي البلد في المربع الأول، وتتركه يتحمّل مشكلات مضاعفة، أقلّها الحصار والعقوبات، وقطع شريان المال المرتهن لدى البنك الفيدرالي الأميركي.
ووسط حدّة هذه السجالات، يرى غالبية العراقيين في تفكيك المليشيات خطوةً عمليةً قد تعينهم على تدبر الحال والمآل بعدما عانوه سنوات مديدة من توغّلها وتغوّلها، وارتكاباتها غير المحمودة، ومنها عمليات اختطاف وتغييب وقتل مئات الناشطين المُعارِضين، ونهب مليارات الدولارات، وعملها الحثيث في خدمة مصالح إيران وحماية أمنها القومي. وإذا ما اقترن التفكيك بقطع يد إيران وكفّ هيمنتها على القرار العراقي، كما تطالب الولايات المتحدة، راعية العملية السياسية الماثلة، تكون بغداد قد تجاوزت معضلة كبرى في طريق تغليب منطق الدولة ذات السيادة على ظاهرة الدولة التابعة والمُخترَقة.
قضية شائكة أخرى شرعت تطفو على سطح الأحداث من جديد بعد أن انحسرت زمناً: يريد مجلس محافظة البصرة تحويل البصرة، التي تعوم على بحيرة نفط، إلى إقليم فيدرالي. الدستور الذي صنعه الأميركيون بعد الاحتلال يتيح ذلك، مع أن هناك “لكن” كبيرة لها صلة بواقع العراق الحالي، ومسألة عدم توافر الضمانات الكفيلة باستطلاع رأي الشعب في خطوة انفصالية كهذه، والخوف من أن تؤدّي، إذا ما قُدِّر لها أن تتحقّق، إلى إلحاق الخراب، ليس بمحافظة البصرة فحسب، وإنما بالعراق كلّه. وقد تفتح الطريق، كما هو متوقّع، نحو شرذمة العراق وتشظيه. وفي الذاكرة أن أكثر من محافظة طالبت في السابق بمثل ما تطالب به البصرة اليوم. وفي أخبار بغداد أن فريقاً من سياسيي الأنبار ينوون تنشيط مطالبتهم باعتماد محافظتهم إقليماً فيدرالياً على النحو الذي يريده البصريون. ومعلوم أن دعاة إقليم البصرة يطمعون في السيطرة على الثروة النفطية التي تشكّل النسبة الأكبر من نفط العراق، وقد يجرّ ذلك خصوماتٍ وتداعياتٍ لا نعرف مداها بين المحافظات، بما يهدّد وحدة البلاد ووحدة أهلها.
يشكل الوضع المالي الصعب قضية شائكة ثالثة. بلغت ديون العراق رقماً خيالياً تعجز أي دولة مثل العراق عن تسديده، بل حتى عن الوفاء بفوائده: 150 مليار دولار، حسب تقدير البنك المركزي العراقي. وهناك حالة عجز عن توفير رواتب ملايين الموظّفين والمتقاعدين، ورواتب الرعاية الاجتماعية، وكذلك عن تأمين ما تتطلّبه الخدمات العامّة والمشاريع المتوقّفة. ماذا يعني ذلك؟
يقول خبراء الاقتصاد إن حالة مثل هذه تضع الدولة في عداد الدول المُفلِسة التي قد تعجز حتى عن توفير الغذاء الضروري لمواطنيها. وثمّة سؤال في الصميم: أين ذهبت المليارات التي غنمها العراق من ثروته النفطية في السنوات العشرين السالفة؟
واقعة واحدة أثبتها تقرير للجنة المالية البرلمانية نُشر في حينه تفصح عن الجواب. يقول التقرير إنه في الفترة التي حكم فيها نوري المالكي (زعيم حزب الدعوة) بين 2006 و2014، اختفت 360 مليار دولار، وطالبت اللجنة بالتحقيق في تلك الواقعة، لكن مع مرور الزمن، وظهور فضائح مالية أكبر، نسي الناس أمر المليارات الأولى، وتتابع نهب المليارات حتى اليوم، ولا من رأى ولا من سمع!
العربي الجديد





