في زنازين لا تعرف سوى الظلام، يحمل أربعمائة مقدسي بين جدران سجون الاحتلال الإسرائيلي أحلاماً مكبلة بأغلال الواقع المرير. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام في سجلات السجون، بل هم أبرياء وأطفال وشيوخ ونساء، كل منهم يحمل قصة ألم تتجاوز حدود الزمان والمكان. وفقاً للجنة أهالي الأسرى والمحررين المقدسيين، فإن هؤلاء الأسرى يعيشون ظروفاً قاسية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، حيث يبلغ عددهم نحو 400 أسير، بينهم 55 طفلاً وسيدة واحدة فقط، لكن معاناتهم تتعدد وتتشعب كفروع شجرة زيتون مكسورة .
من بين هؤلاء الأسرى، يبرز اسم سمير أبو نعمة (65 عاماً) كأقدم الأسرى المقدسيين، الذي يقضي حكماً بالمؤبد منذ اعتقاله في أكتوبر/تشرين الأول 1986، وهو الآن في عامه الـ38 على التوالي خلف القضبان. هذه السنوات الطويلة لم تكن مجرد رقم، بل كانت فصولاً من المعاناة والإهمال الطبي والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية. أما الأسير أحمد سعادة، فهو يواجه حكماً قاسياً بـ13 مؤبداً منذ اعتقاله عام 2003، وهو رقم لا يعكس فقط ثقل العقوبة، بل يشير إلى سياسة القمع المنظم التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد المقدسيين .
لا تقتصر المعاناة على السنوات الطويلة أو الأحكام الجائرة، بل تمتد لتطال كبار السن والمرضى الذين يعانون من إهمال طبي متعمد. الشيخ عصام عميرة (74 عاماً ونصف)، خطيب وإمام أحد مساجد بلدة صور باهر جنوب القدس، هو أكبر الأسرى سناً وهو محكوم بالسجن 3 أعوام. وجود رجل في مثل سنه في السجن يطرح تساؤلات حول مدى إنسانية هذه الممارسات وانعكاساتها على صحته النفسية والجسدية. لكن الحالة الأكثر إثارة للقلق هي حالة الأسير الجريح أيمن الكرد، الذي يعاني من الشلل النصفي بعد إصابته برصاص الاحتلال عام 2016. الكرد، الذي كان في الثانية والعشرين من عمره عندما اعتقل، يتنقل بواسطة كرسي متحرك ويعيش ظروفاً صحية صعبة في مستشفى سجن الرملة، حيث يواجه إهمالاً طبياً متعمداً يضاعف من معاناته .
هذه القصص ليست سوى غيض من فيض معاناة أكبر تمتد لتشمل آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. فحسب تقارير مؤسسات الأسرى الفلسطينية، ارتفع عدد الأسرى في السجون الإسرائيلية إلى 11,100 أسير حتى سبتمبر/أيلول 2025، وهو أعلى رقم منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 . ومن بين هؤلاء، هناك 49 سيدة و400 طفل، بالإضافة إلى 3,577 معتقلاً إدارياً دون تهمة أو محاكمة، وهو رقم قياسي يعكس سياسة الاعتقال التعسفي التي تنتهجها سلطات الاحتلال . كما يشمل هذا الرقم 2,662 معتقلاً مصنفين كمقاتلين غير شرعيين، بينهم معتقلون فلسطينيون وآخرون من لبنان وسوريا .
الأسرى المقدسيون يواجهون تحديات فريدة بسبب وضعهم القانوني المعقد كحاملين للهوية الإسرائيلية الزرقاء، والتي تمنحهم وضع الإقامة الدائمة ولكن لا تمنحهم الحماية الكافية. فكثيراً ما تفرض سلطات الاحتلال عقوبات قاسية عليهم بعد الإفراج عنهم، مثل الإبعاد عن القدس أو الحبس المنزلي أو منعهم من الوصول إلى المسجد الأقصى. ففي فبراير/شباط 2025، قررت إسرائيل إبعاد ثلاثة مقدسيين بحجة أنهم أقارب لشهداء وأسرى محررين، استناداً إلى قانون يسمح بطرد عائلات منفذي العمليات ضد الإسرائيليين . هذه الإجراءات تهدف إلى خلق واقع جديد من التهجير القسري للمقدسيين، خاصة أن الإبعاد يعني إلغاء إقامتهم وفقدانهم لحقوقهم وامتيازاتهم التي كانت ممنوحة لهم.
الأطفال الأسرى ليسوا بمنأى عن هذه المعاناة، حيث يعيش 65 طفلاً مقدسياً في سجون الاحتلال، معظمهم في سجن مجدو، ويعانون من ظروف صعبة تشمل انتشار الأمراض الجلدية مثل الجرب، والإهمال الطبي، وسوء التغذية . بعض هؤلاء الأطفال يواجهون أحكاماً عالية بشكل غير مبرر، مثل محمد الزلباني الذي حكم عليه بالسجن 18 عاماً، وجعفر إمطار (12 عاماً)، ومحمد أبو قتيش (15 عاماً) . هذه الممارسات تنتهك بشكل صارخ اتفاقية حقوق الطفل والقوانين الدولية التي تحظر تعذيب الأطفال ومعاملتهم بقسوة.
النساء الأسيرات أيضاً يواجهن معاناة مضاعفة، حيث تقبع تسنيم عودة كأسيرة مقدسية وحيدة في السجون الإسرائيلية، بينما تم الإفراج عن معظم الأسريات المقدسيات ضمن صفقات التبادل . وجود النساء في السجون يعني حرمانهن من أدوارهن كأمهات وبنات وزوجات، كما يعرضهن لانتهاكات قد تكون أكثر قسوة بسبب طبيعتهن الجسدية والنفسية.
وراء هذه الأرقام والقصص، هناك سياسة منهجية من القمع والانتقام تمارسها سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني والمقدسيين . فمنذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهدت القدس والضفة الغربية حملات اعتقال موسعة طالت خطباء مساجد ونشطاء وطلاباً وصحفيين تحت ذريعة التحريض . كما قامت سلطات الاحتلال بمصادرة أموال الأسرى وذويهم، بما في ذلك الأسرى المحررين، حيث تقدر المبالغ التي تم الاستيلاء عليها بملايين الشواقل . هذه الإجراءات تهدف إلى خنق المقاومة الفلسطينية اقتصادياً واجتماعياً، وإضعاف صمود الأسرى وعائلاتهم.
التكتم الإسرائيلي على ظروف الاعتقال والإخفاء القسري للعديد من الأسرى، خاصة من غزة، يضيف بعداً آخر للمأساة. فحسب تقارير نادي الأسير، فإن 77 أسيراً استشهدوا في سجون الاحتلال منذ بدء الحرب، بينهم 46 من معتقلي غزة، بالإضافة إلى العشرات الذين ما زال الاحتلال يتكتم على هوياتهم وظروف استشهادهم . كما أن جثامين 74 أسيراً من الشهداء لا تزال محتجزة ضمن قائمة تضم 85 أسيراً أعلن عن هوياتهم . هذه الممارسات تنتهك ليس فقط حقوق الأحياء، ولكن أيضاً حقوق الموتى في دفن مناسب واحترام كرامتهم الإنسانية.
في الختام، قضية الأسرى المقدسيين ليست مجرد قضية سياسية أو إنسانية عابرة، بل هي تجسيد لمعاناة شعب بأكمله تحت الاحتلال. فهؤلاء الأسرى هم أبرياء وأطفال وشيوخ ونساء، كل منهم يحلم بالحرية والكرامة الإنسانية. قصصهم تذكرنا بأن هناك إنسان يحمل أحلاماً وآمالاً لا تختلف عن أحلامنا وآمالنا. نداء الحرية الذي يرفعه هؤلاء الأسرى من خلف القضبان هو نداء إنساني يجب أن يجد صداه في ضمير العالم أجمع.