بينما كانت غزة تُقصف بلا هوادة، وأطفالها يُنتشلون من تحت الأنقاض، كانت القمة العربية تُعقد في بغداد، وسط شعارات فضفاضة، وخطابات بروتوكولية لا ترتقي لحجم الكارثة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. مرة أخرى، تثبت الجامعة العربية أنها كيان بلا أنياب ولا إرادة، عاجزة عن تجاوز بيانات الشجب والإدانة، بينما تُرتكب إبادة جماعية ممنهجة بحق الفلسطينيين، وتُنفّذ أكبر عملية تهجير قسري منذ نكبة 1948، تحت أنظار العالم، وبمباركة دولية متواطئة، وصمت إقليمي مخجل. القمة التي كان يفترض أن تضع الملف الفلسطيني في صدارة أولوياتها، خرجت بلا قرارات عملية، بلا إجراءات رادعة، وبلا موقف موحد يُعيد بعضًا من الكرامة السياسية التي تهشّمت على مدار السنوات الماضية. وبينما كانت الآمال معلقة على بغداد لإعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين، جاءت النتائج مخيبة، أشبه بمسرحية هزلية تُدار على أنقاض الدم الفلسطيني، في مشهد يؤكد أن القضية لم تعد في قلب الاهتمام العربي، بل صارت عبئًا يتم التخلص منه عبر صفقات، وتطبيع، وتجاهل مريع للحق التاريخي والإنساني. الأسباب كثيرة، لكنها تتلخص في مشهد عربي ممزق، تحكمه الأولويات الذاتية والتحالفات المتناقضة. دول الخليج، المنخرطة في مسار التطبيع، تفضل عدم التصعيد مع إسرائيل حتى لا تفسد مشاريعها الاقتصادية والأمنية، بينما دول أخرى منهكة بصراعاتها الداخلية، أو تعيش تحت العباءة الأميركية التي لا تسمح برفع الصوت فوق السقف المسموح. في المقابل، تغيب فلسطين عن الأجندة إلا من باب رفع العتب، بينما الفلسطينيون يُذبحون، ويُحاصرون، ويُجبرون على ترك ديارهم، بلا أن يسمعوا صوتًا حقيقيًا من أشقائهم. ما يحدث ليس فقط تخليًا عن فلسطين، بل تفكيك متعمد للقضية، وتحويلها إلى “ملف إنساني” بدل أن تظل “قضية تحرر وطني”. هذا التحول الخطير جزء من مشروع سياسي أكبر تقوده إسرائيل بدعم غربي، ويهدف إلى إنهاء الصراع عبر تصفية عناصره: الأرض، والسلاح، واللاجئون، والمقاومة. أما الدول العربية، فهي موزعة بين من يشارك في هذا المشروع بصمت أو تعاون، ومن يراقب من بعيد دون رغبة حقيقية في الفعل، وكأن فلسطين لم تعد تخصهم. التداعيات لهذا التواطؤ أكبر مما يُتصور. فالتخلي عن فلسطين هو تخلي عن الضمير العربي، وعن مركزية الصراع الذي شكّل وعي الشعوب لعقود. إنه فتح للباب أمام إسرائيل لفرض وقائع جديدة على الأرض، ليس فقط في غزة، بل في الضفة والقدس وكل فلسطين التاريخية. كما أنه يمنح الضوء الأخضر لتوسيع الاستيطان، وتهويد المقدسات، واستمرار الحصار الخانق. والأنكى من ذلك، أن هذا الموقف الضعيف يُشجع قوى دولية على التعامل مع الفلسطينيين كمشكلة إنسانية، وليس كقضية استعمار واحتلال، وهو ما يفسر تقليص الدعم للأونروا، وشيطنة الفصائل، وترويج خطابات “نزع السلاح مقابل الإعمار”. الأطراف المعنية بالصراع، من إيران إلى تركيا، مرورًا بالولايات المتحدة، تقرأ المشهد جيدًا. إسرائيل تدرك أنها أمام فرصة تاريخية لسحق غزة وتفكيك المقاومة تحت غطاء دولي وصمت عربي. واشنطن ترى في الموقف العربي الحالي ورقة ضغط لإجبار الفلسطينيين على قبول “الواقع الجديد”، وربما العودة إلى طاولة مفاوضات لا تمنحهم شيئًا سوى إدارة العيش تحت الاحتلال. إيران وتركيا، من جهتهما، توظفان الوضع لتعزيز نفوذهما الإقليمي، لكن دون ترجمة حقيقية على الأرض تدعم الشعب الفلسطيني في معركته الوجودية. في هذا المشهد القاتم، يظهر الفلسطيني وحده من يدفع الثمن. يُقتل دون حساب، يُهجّر دون حماية، يُجوع تحت الحصار، ويُشيطن حين يُدافع عن أرضه. لا أحد يملك أن يسأل عن جثث الأطفال تحت الركام، أو عن العائلات التي تُجبر على ترك منازلها جنوب القطاع، أو عن المقاومين الذين تُستهدف بيوتهم بالطائرات والدبابات. الكل منشغل بحساباته، وحده الفلسطيني لا يملك رفاهية الحياد أو الانتظار. المستفيد الوحيد من هذا الوضع هو الكيان الإسرائيلي، الذي يستغل الانقسام العربي، والارتهان للقرار الأميركي، والتطبيع الذي منح إسرائيل شرعية إقليمية كانت تفتقدها لعقود. إسرائيل تُنفّذ مشروعها التوسعي بهدوء، وتغلق الطريق على أي حل عادل، وتحاصر غزة حتى الموت، وهي تدرك أن لا أحد سيتدخل، لا من القمة العربية ولا من خارجها. أما الشعوب العربية، فهي تعيش بين الرفض الصامت والعجز المفروض، في ظل أنظمة لا تعكس إرادتها، ولا تعبّر عن نبضها، وهو ما يُعمّق الفجوة بين الشارع والحكم، ويُفجّر الغضب الكامن الذي قد ينفجر في لحظة. خلاصة المشهد أن قمة بغداد لم تقدّم شيئًا لفلسطين، بل كرّست واقعًا جديدًا عنوانه “الصمت العربي”، وأكدت أن الشعارات لا تحمي أطفال غزة، وأن الخطابات لا توقف القصف، ولا تعيد المهجّرين إلى بيوتهم. وحده الفعل الحقيقي يمكنه أن يُغيّر المعادلة، ووحدها الإرادة الشعبية، إن تحرّرت من القيود، قادرة على قلب الطاولة. أما الأنظمة، فما زالت رهينة حساباتها، تتعامل مع فلسطين كملف ثقيل ترغب في طيّه بأي ثمن، ولو كان الثمن دماء شعب أعزل يُقاوم على حدود الكرامة.