كابوس ملاحقة الجنود في العالم

عمر حلمي الغول

من تجارب سيرورة حركة التاريخ تمظهرت سمات التعصب والعنصرية الاستعلائية في الأقوام والدول والحركات والأحزاب نتاج الانغلاق على الذات، والتفوق العرقي والديني، وتبني المعتقدات والأساطير اللاهوتية المتطرفة، والغرق في دهاليز الميثالوجيا المتعفنة، التي تمثلت في الحقب التاريخية القديمة في دولة إسبارطة اليونانية، وفي القرون الوسطى شهد الصراع بين الأقوام والجماعات مذابح وحروبا مروعة، ومع ولوج البشرية عصر النهضة مع نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر وتشكل الدول القومية وأسواقها الخاصة، وبعد اكتشاف أميركا الشمالية قبل أكثر من خمسة قرون، وبفعل بروز ظاهرة الاستعمار القديم والتنافس على تقاسم النفوذ في دول العالم الثالث وتحديدا في القرن التاسع عشر والعشرين برزت الحركات السيادينية كالحركة الصهيونية وأضرابها والدول الفاشية في أوروبا بسبب عوامل مختلفة دفعت البشرية أثمانا باهظة في حربين عالميتين، الأولى 1914- 1918، والثانية 1939 – 1945 عشرات الملايين من بني الإنسان، وما زالت الشعوب حتى يوم الدنيا هذا في الألفية الثالثة تدفع أثمانا مهولة، كما يجري منذ 460 يوما على الأرض الفلسطينية من الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الشعوب العربية عموما وفلسطين خصوصا وتحديدا في قطاع غزة، التي أودت بحياة ما يزيد على 160 ألفا من الشهداء والجرحى والدمار الكارثي، وما زالت حرب الأرض المحروقة تلتهم الإنسان والمكان والشجر والحجر وحتى الهواء.

وفي خضم الإبادة الجماعية المنفلتة من كل عقال قانوني وقيمي وأخلاقي، ومع إطلاق العنان ويد الضباط والجنود الإسرائيليين وحلفائهم لاستباحة وقتل كل فلسطيني عربي طفلا أو امرأة أو شيخا أو شابا نتاج التعصب السياديني والعنصرية الوحشية الإسرائيلية، برزت حركات ومنظمات إنسانية داعمة للحقوق الفلسطينية، ورافضة للمذابح والمحارق الإبادية، من بينها منظمة “هند رجب فونديشن” (هند رجب طفلة فلسطينية عمرها 5 سنوات قتلت هي وعائلتها بنيران أسلحة الجيش الإسرائيلي في مدينة غزة)، التي تشكلت في شباط / فبراير 2024، ومقرها بروكسل لملاحقة جرائم الإبادة الوحشية الإسرائيلية، ووثقت ملفات خاصة حتى الآن لألف من الضباط والجنود الإسرائيليين، ورفعت ضدهم قضايا قضائية لمحاكمتهم كمجرمي إبادة في قطاع غزة، ولاحقت القائم بالأعمال الإسرائيلي في بلجيكا، وجندي آخر في سريلانكا في 19 كانون الأول / ديسمبر 2024، ويوم الأحد الماضي (5 كانون الثاني/ يناير الحالي) رفعت قضية اعتقال ضد جندي إسرائيلي في البرازيل، تم تهريبه قبل اعتقاله.

ومن أمثلة المتابعة والملاحقة للجنود الإسرائيليين، الجندي عمري نير، جندي في كتيبة الهندسة القتالية 601 الإسرائيلية، نشر صورة له على موقع إنستغرام وهو يقف داخل منزل لعائلة فلسطينية غزية قتلت أو نزحت أثناء الإبادة الجماعية في 31 كانون الأول / ديسمبر 2023، أبرزت الصورة عرضا مرعبا للإفلات من العقاب، في هذا العام (2024) بينما يسافر إلى تايلاند للاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة مرة أخرى يبدو العالم مختلفا تماما بالنسبة له، فقد اكتشفت مؤسسة هند رجب (…) وجوده في تايلاند وتصرفت بحزم” ورفعت قضية ضده لمحكمة الجنائية الدولية.

وهناك حتى الآن 50 شكوى قضائية ضد ضباط وجنود وثقت جرائمهم بأشرطة فيديو، هم أنفسهم صوروها، وفتحت تحقيقات في 10 دول، ويتم التعامل مع حالات فردية بشكل خاص، للجنود حملة الجنسية المزدوجة، أو حالات توفرت ضدها معلومات استخباراتية، حسب هيئة البث الإسرائيلية “كان”. وهذه الملاحقات أخذت تقض مضاجع القيادة الإسرائيلية، وأثارت جدلا واسعا في الأوساط الإسرائيلية بعد النشاط المتزايد للمؤسسة الحقوقية (HRF)، التي تعمل على جمع الأدلة والوثائق لملاحقة الضباط والجنود الذين شاركوا في الإبادة الجماعية لتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وطالبت من الحكومة التايلاندية اعتقاله.

وعلى إثر ذلك، شكلت الحكومة الإسرائيلية فريق عمل مشتركا من الوزارات ذات الصلة، ويضم ممثلين من الموساد والشباك، لإرشاد الجنود حول كيفية التعامل مع التهديدات، بما في ذلك حذف المعلومات الحساسة من شبكات التواصل الاجتماعي، ورفض التعاون مع التحقيقات دون محام. ورغم الدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي المتورطة بدعم إسرائيل اللقيطة والخارجة على القانون، إلا أن المنظمات الحقوقية الرافضة للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني تسعى حثيثا لكسر التابو الغربي، ولم تستسلم.

وقالت مؤسسة هند رجب على صفحتها، إنها “تكرس نفسها لكسر حلقة الإفلات الإسرائيلي من العقاب، وتكريم ذكرى هند رجب وكل من لقوا حتفهم في الإبادة الجماعية في غزة، ونحن مدفعون بالتزام عميق بالعدالة، والسعي إلى محاسبة الجناة، وضمان عدم ضياع قصص الضحايا في التاريخ، ومن خلال جهودنا، نهدف إلى بناء عالم لا يتم فيه تذكر، مثل هذه المآسي، بل وترسيخ العدالة.

ما تقدم، يكشف أن دولة إسرائيل فوق الفاشية المرتكزة على الفكر السياديني العنصري الاستعلائي الاستعماري، المفترضة في نفسها دولة فوق القانون، أو أن القانون الدولي وجد من أجل التغطية على نفيها وإبادتها وسحقها للشعب الفلسطيني، وحمايتها من العالم، لذا أطلقت يد الإبادة الجماعية لجيشها الدموي الوحشي. اكتشفت أن هناك وجها آخر للعالم، عالم يبحث ويعمل من أجل العدالة الإنسانية، ويرفض إبادتها الجهنمية للشعب الفلسطيني، ليس هذا فحسب، بل ويلاحق ضباطها وجنودها أمام المحاكم الدولية وفي حدود الدول القائمة، ما شكل هزة وكابوسا مربعا في أوساطها، حتى إن أمهات الجنود أرسلن رسالة للحكومة الإسرائيلية، ذكرن فيها، أن ما يجري هو نتاج الفكر المتطرف والغطرسة الإسرائيلية، وطالبن بحماية أبنائهن من الملاحقة، وكذلك فعل يئير لبيد، زعيم المعارضة، الذي حمل الحكومة المسؤولية الكاملة عن ملاحقة الجنود.

من المؤكد أن القادم سيكون أشد قوة وتأثيرا على منتسبي جيش الموت الإسرائيلي، وعليه فإن الضرورة تتطلب أن تثمن جهود المؤسسات والدول التي تلاحق الجنود الإسرائيليين، عرفانا بدورهم الهام في دعم القضية والشعب الفلسطيني في كفاحه العادل والمشروع، وحمايته من عار الإبادة الإسرائيلي.

تابعنا عبر: