كارثة فنية فلسطينية: قصف إسرائيلي يمحو ذاكرة الفنان عصام حلس ويحرق أرشيف وطن بأكمله

بن معمر الحاج عيسى

 

في واحدة من أقسى الكوارث الثقافية والفنية التي شهدتها فلسطين في تاريخها الحديث، تعرض مرسم ومكتبة الفنان الفلسطيني الكبير الدكتور عصام محمد حلس لقصف مباشر أتى على كل ما فيهما، ليتحول المكان الذي طالما كان منارة للفن والهوية والتراث، إلى رماد يختزل حجم الجريمة المرتكبة بحق الثقافة الفلسطينية. لم يكن الحريق الذي نشب في مرسم الدكتور حلس نتيجة حادث عرضي أو ماس كهربائي، بل كان نتيجة مباشرة لقصف المسجد المجاور لمنزله في قطاع غزة، حيث استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي المنطقة بصواريخ ثقيلة وبراميل متفجرة، في تصعيد عسكري دموي لم يكتفِ بتدمير الحجر والبشر، بل امتد ليطال الروح الفلسطينية في إحدى أرقى تجلياتها: الفن.

المرسم الذي تحول إلى ركام، لم يكن مجرد مساحة فنية بل كان أرشيفاً وطنياً يحتضن أكثر من 270 لوحة فنية تمثل مراحل مختلفة من المسيرة الإبداعية للدكتور عصام حلس، الممتدة من بداية سبعينيات القرن الماضي وحتى قبيل اندلاع الحرب الأخيرة على غزة. هذه اللوحات لم تكن مجرد ألوان وأشكال، بل كانت تجسيداً بصرياً لذاكرة الوطن، ونبض الأرض، وحكايات المدن الفلسطينية التي خلدها بريشته بدقة الباحث وحس الفنان. ومع هذه اللوحات، التهمت النيران مكتبة ضخمة تضم أكثر من 3700 كتاب ومرجع، ومئات الوثائق والمخطوطات والخرائط والأفلام الوثائقية النادرة التي توثق القضية الفلسطينية منذ عام 1936م، فضلاً عن أرشيف الانتفاضة الأولى وأجهزة الميكروفيلم والميكروفيش والمونتاج التلفزيوني والحواسيب التي كانت تحتوي على آلاف الملفات الرقمية التاريخية والتراثية، التي جُمعت بشغف المثقف والتزام المؤرخ، في مشروع امتد على مدار عقود طويلة من البحث المضني في المكتبات العربية والعالمية.

الخسارة الأكبر تمثلت في فقدان موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني التي عمل الدكتور حلس على تأليفها لأكثر من عشر سنوات، والتي تغطي تاريخ الحركة التشكيلية الفلسطينية منذ العام 1550 حتى العام 2020م، وهي وثيقة فنية وتاريخية نادرة لا تقدر بثمن. كما التهم الحريق ما يزيد عن خمسة عشر كتاباً ومرجعاً ألفها الدكتور حلس حول رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، وطرائق تدريس التربية الفنية، مما يمثل ضياع كنز فكري ومهني لا يمكن تعويضه بسهولة. إن حجم هذه الخسارة لا ينحصر في بعدها الشخصي على الفنان حلس فقط، بل تمتد إلى عمق الذاكرة الجمعية الفلسطينية، التي طالما وجدت في الفن التشكيلي وسيلة لحفظ تاريخها ومقاومة محوها.

ردود الفعل الغاضبة لم تتأخر، فقد سادت حالة من الحزن والغضب بين الأوساط الفنية والثقافية الفلسطينية والعربية والدولية، حيث اعتبر الفنانون والمثقفون أن هذا الاستهداف يمثل اعتداءً صارخاً على الثقافة الفلسطينية وعلى ذاكرة شعب بأكمله، مؤكدين أن ما حدث هو جريمة ثقافية مكتملة الأركان، تسعى من خلالها قوات الاحتلال إلى محو البعد الثقافي والرمزي للقضية الفلسطينية، عبر استهداف الرموز الفنية والتاريخية التي تعبر عن هوية الفلسطينيين وتوثق نضالهم. وقد طالبت مؤسسات ثقافية وفنية دولية باتخاذ خطوات عاجلة لحماية التراث الفني الفلسطيني، وإنشاء أرشيفات رقمية لحفظ الإبداعات من الضياع والتدمير، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واستهدافه الممنهج لكل ما له علاقة بالحياة والذاكرة.

من جهته، عبّر الفنان الدكتور عصام حلس عن حزنه العميق وألمه النفسي الشديد إزاء فقدانه لهذا الإرث الفني والمعرفي الذي كرّس له حياته، مشيراً إلى أن تدمير مرسمه لا يمثل مجرد خسارة شخصية فادحة، بل يمثل فقدان مركز ثقافي كان يجمع بين الفن والتاريخ والتراث، ويُعد مرجعية مهمة في توثيق الهوية البصرية الفلسطينية. وأكد أن ما جرى ليس مجرد حادث، بل هو استهداف متعمد للثقافة الفلسطينية، ضمن مسار طويل من محاولات الطمس والتهويد، وأن الفنانين والمثقفين الفلسطينيين لطالما كانوا في مرمى الاستهداف الإسرائيلي، حيث اغتيل العديد منهم أو حُرموا من التعبير عن إبداعهم بفعل القمع والاحتلال والحصار.

يُعد الدكتور عصام حلس أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، حيث ساهم بشكل محوري في تأسيس الحركة التشكيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان من مؤسسي جمعية الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في مطلع الثمانينيات، ولعب دوراً مهماً في دعم الجيل الجديد من الفنانين، كما تحمّل بصبر وشجاعة تبعات مواقفه الوطنية والفنية، حيث تعرض للملاحقة من سلطات الاحتلال وأجهزتها الأمنية، ما جعله نموذجاً للفنان المقاوم الذي لا يفصل بين الإبداع والانتماء الوطني. ورغم كل المعاناة، واصل عطاؤه الفني والفكري بلا توقف، ليشكل واحدة من أهم التجارب التشكيلية الفلسطينية وأكثرها ارتباطاً بالهوية والبنية الاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني.

ومع انتشار خبر الحريق الكارثي، بدأ الفنانون والمثقفون الفلسطينيون في التعبير عن تضامنهم مع الدكتور حلس، ودعوا إلى توثيق كل ما تبقى من أعماله، وإعادة بناء أرشيفه الفني، وإطلاق حملات محلية ودولية لدعمه واستعادة جزء مما فقد. كما أكد العديد من النقاد أن هذه الكارثة يجب أن تكون دافعاً عاجلاً لتأسيس مؤسسات وطنية مستقلة لحماية الإرث الفني الفلسطيني وتوثيقه رقمياً، حتى لا تضيع هذه الكنوز مع كل قصف جديد أو حرب طارئة. فالفن الفلسطيني ليس مجرد منتج ثقافي، بل هو مقاومة ناعمة في وجه محو الهوية، وهو مرآة تعكس نبض الأرض، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي للأجيال القادمة.

وفي ظل هذا المصاب الجلل، يتساءل الكثيرون: أين دور وزارة الثقافة الفلسطينية؟ وأين المؤسسات الرسمية التي يفترض أن تكون حامية لهذه الذاكرة الثقافية؟ وهل باتت حماية الفن الفلسطيني مرهونة فقط بجهود فردية ومبادرات شخصية؟ إن ما حدث للفنان عصام حلس يجب أن يدق ناقوس الخطر، ويفتح نقاشاً وطنياً جاداً حول آليات حفظ الإنتاج الثقافي الفلسطيني، وضرورة توثيقه رقمياً، ودعمه مادياً ولوجستياً، خاصة في ظل الظروف القاسية التي يعيشها الفنانون في فلسطين. فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل أصبحت على الذاكرة، وعلى كل ما يشكل هوية الشعب الفلسطيني ووجوده الإنساني.

كارثة مرسم الدكتور حلس ليست فقط قصة فنان فقد لوحاته وكتبه وأبحاثه، بل هي قصة وطن تتعرض ذاكرته اليومية للتآكل، وقصة شعب يكافح للاحتفاظ بتاريخه عبر الألوان والرموز والصور التي توثق نضاله وأحلامه وحقه في الوجود. ورغم الدمار، فإن الفنان الفلسطيني سيظل يرسم، وسيلون الخراب بأمل العودة والحرية والكرامة، وسيبقى الفن الفلسطيني، بكل ما يحمله من رمزية، شاهداً على أن هذه الأرض لا تُروى إلا باللون والدم معاً.