في لحظة دبلوماسية فارقة شهدتها أروقة الأمم المتحدة بنيويورك، تمكنت الجزائر عبر مفاوضاتٍ دقيقة وطويلة من تغيير مسار قرار مجلس الأمن المتعلق بتجديد ولاية بعثة المينورسو في الصحراء الغربية، بعد أن كاد النص الأولي للمسودة الأميركية يُكرّس انحيازًا واضحًا لصالح الرواية المغربية.
القرار الذي اعتمد اليوم شكّل – وفق وكالة الأنباء الجزائرية (وأج) – تحولًا نوعيًا في لغة الأمم المتحدة تجاه النزاع الصحراوي، وأعاد الاعتبار إلى مبادئ الشرعية الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لم يكن الطريق سهلاً، فقد خاضت الدبلوماسية الجزائرية، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، مفاوضاتٍ شاقة على مختلف الجبهات والعواصم، من الجزائر العاصمة إلى نيويورك وواشنطن، من أجل تفكيك اللغة المنحازة في المسودة التي كانت واشنطن قد صاغتها أولًا.
فالصيغة الأولى من المشروع اتسمت بانحيازٍ واضح وصريح للأطروحة المغربية، حيث كانت تصف مقترح الحكم الذاتي المغربي بأنه “خطة جدية وذات مصداقية وواقعية”، وتتعامل معه كخيارٍ شبه وحيد.
إلا أن التحرك الدبلوماسي الجزائري المنظم والمتوازن نجح في قلب المعادلة، فقد تمكّنت الجزائر من إقناع عدد من أعضاء مجلس الأمن بضرورة الضغط على الولايات المتحدة من أجل سحب تلك العبارات، وإعادة صياغة القرار بما يفتح الباب أمام كلّ المقترحات الممكنة، بما فيها خيار الاستقلال الذي تمسّكت به جبهة البوليساريو باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي. اختارت الجزائر، في خطوةٍ سياديةٍ حاسمة، عدم المشاركة في التصويت على مشروع القرار، مؤكدة أن النص “لا يرقى إلى مستوى تطلعاتها”، ولا يتضمّن “إشارة صريحة لمقترح جبهة البوليساريو”.
هذا الموقف، وإن بدا في ظاهره امتناعًا، إلا أنه يحمل في جوهره رسالة سيادية واضحة مفادها أن الجزائر لا تقبل أن تكون طرفًا في أي تسويةٍ تُقصي حقّ تقرير المصير، ولا تنسجم مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. لقد جاء القرار النهائي، بعد التعديلات التي فرضتها الجزائر، ليضع جميع المقترحات على قدم المساواة، مؤكدًا أن الحلّ النهائي يجب أن يندرج ضمن القانون الدولي، وأن يكون “مقبولًا من الطرفين” ويؤدي إلى ممارسة الشعب الصحراوي حقه في تقرير مصيره.
ومن بين المكاسب الدبلوماسية البارزة التي حققتها الجزائر أيضًا أن القرار النهائي جدد ولاية بعثة المينورسو لمدة سنة كاملة بدلًا من ثلاثة أشهر فقط كما جاء في النص الأميركي الأولي، كما أقرّ القرار بتكليف الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي بتطبيق كلّ القرارات السابقة ذات الصلة بالقضية، وليس فقط تلك الصادرة منذ 2007 كما كانت تشير الصيغ القديمة.
وبهذا، استطاعت الجزائر إعادة الاعتبار للمسار التاريخي للنزاع ووضع كلّ قرارات مجلس الأمن في إطارٍ متكامل يمنع أيّ تأويلٍ انتقائيّ أو تلاعبٍ زمنيّ يخدم طرفًا على حساب آخر. في تصريحاتها الرسمية، أكدت الجزائر عبر (وأج) أنها لن ترضخ لأيّ ضغوط أو مساومات، وأن موقفها ثابت في الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة، وفي مقدمتها الشعب الصحراوي.
هذا الخطاب السيادي، الذي يعكس روح الدبلوماسية الجزائرية الجديدة، يقوم على مبدأين أساسيين: الاستقلالية في القرار الوطني بعيدًا عن الإملاءات الأجنبية، والوفاء للشرعية الدولية التي تضع تقرير المصير كأحد المبادئ المؤسسة للأمم المتحدة.
لقد برهنت الجزائر مرة أخرى أن الشرعية لا تُقاس بموازين القوى بل بالثبات على المبدأ، وأن الدبلوماسية يمكن أن تكون سلاحًا ناعمًا لكنه فاعل في تصحيح مسار العدالة الدولية. التحليل الموضوعي لمسار المفاوضات يُظهر أن الجزائر لم تكتفِ بالاعتراض، بل قدّمت تعديلات جوهرية في بنية النصّ الأممي، فقد نجحت في تحويل صيغة القرار من وثيقة تُكرّس “الحكم الذاتي” كمخرج وحيد، إلى نصٍّ مفتوح على كلّ الخيارات، يعيد التأكيد على المرجعيات الأممية وعلى دور المينورسو كآلية سلام لا كأداة لتكريس الأمر الواقع.
وبذلك، يمكن القول إن الجزائر فرضت مقاربة جديدة داخل مجلس الأمن عنوانها “العودة إلى القانون الدولي”، ورفض منطق “الحلول المفروضة” الذي سعت واشنطن وبعض العواصم إلى تمريره تحت غطاء الواقعية السياسية. لم يكن الانتصار الجزائري في نيويورك مجرّد تعديل لغوي أو قانوني في قرار أممي، بل كان رسالة سياسية قوية إلى المجتمع الدولي بأن الجزائر أصبحت فاعلًا رئيسيًا في هندسة المواقف داخل مجلس الأمن.
لقد استطاعت الجزائر، بفضل حنكتها الدبلوماسية وشبكة اتصالاتها الواسعة، أن تحشد دعمًا من دولٍ وازنة، وتُعيد النقاش إلى منطلقاته الأصلية: أن الصحراء الغربية ليست “قضية حدود”، بل قضية تصفية استعمار، وأن الحل العادل لا يمكن أن يتم إلا عبر إرادة الشعب الصحراوي نفسه.
بإصرارها على هذا الموقف، تؤكد الجزائر أن قضايا التحرر ليست أوراقًا تفاوضية، وأنها ستظل سندًا لكلّ شعبٍ يُطالب بحقه في الكرامة والسيادة. فالمسألة بالنسبة للجزائر ليست نزاعًا إقليميًا، بل قضية مبدئية تمسّ روح ثورتها التحريرية وتجسّد وفاءها لمبادئ نوفمبر وحقّ الشعوب في الحرية. قرار مجلس الأمن الصادر اليوم لن يكون مجرد وثيقة جديدة تُضاف إلى أرشيف المنظمة الدولية، بل نقطة تحوّل في مسار الصراع الصحراوي.
فوراء الصياغة النهائية تقف دبلوماسية جزائرية يقظة أعادت للمشهد الدولي توازنه، وذكّرت الجميع أن في العالم دولًا لا تُشترى مواقفها، ولا تُقايض مبادئها. الجزائر اليوم، وهي تُدافع عن حقّ الصحراويين، تدافع في العمق عن شرعية القانون الدولي، وعن صوت الشعوب الحرة الذي حاولت المسودات المنحازة إسكاتَه. إنها، كما قالت (وأج)، سيدة قرارها وضمير المنطقة الذي لا يساوم على الحقّ ولا يبيع ذاكرته السياسية.









