إكتسبت سوريا الجديدة خماسية دولية، تُعنى بحماية الحدود ومنع الإختراق الأمني، وضبط التسيُّب الذي كان سائداً أيام الحكم البعثي السابق، وكما لبنان الذي إستفاد من اللَّجنة الخماسية العربية والدولية، التي ساعدته للخروج من عنق الزجاجة، الذي وضعته فيه إيران وأحزابها الحليفة، المنضوية في تركيبتها الإيديولوجية منذ أكثر من عقدين من الزمن، صار لزاماً على لبنان واللُّبنانيين إدارة شؤونهم بأنفسهم، وبمسؤولية وطنية عالية تقطع الطريق على أي تدخل خارجي، بإستثناء الإنفتاح على دنيا العرب، كعمق تاريخي وثقافي وديني وإقتصادي مريح.
الخماسية العربية التي تشكَّلت حول سوريا، نجحت حتى الآن في توفير الغطاء الأمني لدمشق، فمنعت العَبث بالحدود مع العراق، وقلَّلت من التفلُّت الأمني_التهريبي مع لبنان، وباركت التوافق والإتفاق بين الأكراد، شمال شرق سوريا والدولة السورية، التي سيطرت قواتها على هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز، وأدْمجت كل القوى العسكرية والأمنية في صفوف الأجهزة التابعة للدولة المركزية، قطْعاً للطريق على أية محاولة إنفصالية، يمكن لها أن تغيِّر خريطة التوازن في الشرق الأوسط، أما في لبنان، وبعد أن حازت الخماسية العربية والدولية على الثقة الكاملة، نجحت في حماية لبنان وإنتشاله من براثن سطوة إيران الدينية، وفتاويها السياسية المجبولة بقهر الشعب، لحمْله على تحقيق الإنتصارات الوهمية ضد إسرائيل، المفروضة على الناس من فوق وبالقوة الجبرية، تحت حجَّة تملُّك مفاتيح الجنة ومفاتيح القدس والتحرير.
واقع مختلف
ذلك هو اللُّغز الذي لم يفسِّر كُنْهه وتفكيك شيفرته، كل الأحزاب القومية والعلمانية في لبنان، والتي لا زالت تدور في فلك حزب الله وتحت مظلَّته، فهو بقيَ لوحده محتفظاً بمفاتيح التحرير لفلسطين وشعبها، معتبراً ومن خلال صياغة إيديولوجيته الدينية، الموصولة بشرنقة الوليِّ الفقيه في إيران، أن هذه الأحزاب العلمانية والقومية والدينية، قامت وأُنْشِئت على قضية فلسطين وتحرير شعبها وأرضه، وبالتالي فإن عملية إمتلاك وإحتكار، بل والتفرُّد المطلق بحق التصرُّف لهذه القضية، يُعطيه صكوكاً غفرانية دائمة، لتوزيعها في العمالة وتحديد النسل لمعايير الوطنية على الناس والشعب والنُّخب وغيرهم، فلا هذه الأحزاب شاركت في الإسناد المقدس لحرب غزة، ولا إستفادت من نتائج التدمير الإسرائيلي الممنهج، للوقوف مع أهل الجنوب وحقِّهم بالعودة الى أرضهم التي دُمِّرت وسويت ركاماً بالأرض، إنها معضلة اليساريين المشوَّهين والقوميين، الذين وقف عندهم التاريخ والزمن لحظة وفاة القائد الملهم عبدالناصر، والإشتراكيين العلمانيين الذين لا زالوا ينتظرون دورتهم التاريخية لتعود وتنفُض الغبارعن لينين في قبره.
لبنان والمحيط الإقليمي صار أمام واقع مختلف، وتحوُّلات كبيرة وضعت الشرق الأوسط ضمن بيئة إستراتيجية خطيرة، تُهيمن عليها أميركا ومشروعها، وتشكل أداتها إسرائيل، التي تحاول في كل يوم إبتكار صيغة في توزيع أو إلصاق أو ضمّ وفرز خرائط المنطقة والدول، للعبث بمفاصل بُنيتها التاريخية والثقافية المتراكمة، فقد عانت المنطقة العربية طويلاً، من الطعنات نتيجة فجاجة المشروع الإيراني، الذي لا زال يتقدّم رغم خسائره المهولة، لينكّل بجسد الخريطة العربية وفي إقليم الشرق الأوسط، فهو كان قد أعلن سابقاً سيطرته على أربع عواصم عربية هي بغداد وصنعاء والشام وبيروت، واليوم يتراجع هذا المشروع، فدمشق باتت حرّة أخيراً، وبغضِّ النظر عن صيغة الحكم الحالية، التي تشكل معبراً إلزامياً لمنطق الإستقرار السياسي الدائم، وبيروت تسير على طريق التعافي، ولملمة أشلاء المؤسسات الأمنية والإدارية والإقتصادية، وبغداد تفتّش عن باب مستقبلي للخروج من الشرنقة الطائفية والمذهبية المستحكمة بجسد الدولة، وحتماً ستجد الطريق والمخرج.
مجابهة المشروع الاسرائيلي
لكن يجب التنبُّه لمشروع آخر يتقدّم، وهو معادٍ للعروبة وإيران في الوقت نفسه، ومعادٍ كذلك للمشروع التركي، وهو المشروع الإسرائيلي، فحتى الطعنات التي تلقيناها من المشروع الإيراني يجب أن لا تَحيدنا أو تُعفينا من النظر والحذر للخناجر الإسرائيلية، التي تتحضَّر لتقطيع أوصال البلاد العربية، فلا يحمينا إلاَّ العروبة المتخطِّية للمذاهب والمناطق والطوائف والدين.
وحده المشروع العربي، قادرعلى قطع شهوة إسرائيل وتعطُّشها أثناء مسيرة حَمْلها الصعب، بعد أن سال لعاب نتنياهو كثيراً، وإنتقل من لبنان وغزة الى قضم الأراضي السورية، وتوسيع النفوذ العسكري والأمني فيها، خصوصاً بعد سقوط الميليشيات المذهبية، التي كانت تنادي بتحرير فلسطين، فيما كانت تخطّط وتعمل للاستيلاء على السلطة في دول العرب، وصبّت جهودها طيلة فترة حضورها المأساوية، في إسقاط الدول الوطنية المحيطة بإسرائيل، لتقدَّمها على طبق جاهز للمشروع الصهيوني.
المشروع العربي الجديد قاعدته الأساسية وركيزته الوحيدة، يجب أن يكون بناء دول وطنية مركزية قويّة، إقتصادها آمن ومتطوّر ومستدام، على طريقة دول الخليج، التي تحوَّلت الى قوة جذب إقتصادي مالي وعلمي وتقني عالمي، ونقطة ثقل دولية لحلّ الصراعات، وهو ما أثْبتته وقائع التقريب الناجحة بين ترامب وفلاديمير بوتين.
فالمشروع العربي بصيغته الحالية يشكل دافعاً ضرورياً، بعد أن أثبت في إجتماعاته وتكتُّلاته، أنه الصدَّ الأخير والمنيع، في وجه مشروع ترمب التهجيري لشعب فلسطين، وصار ضرورة لمواجهة شهيّة نتنياهو، بعدما تبيّن أنّ الذين تظاهروا بمواجهة إسرائيل، إنّما كانوا خادمين ومتخادمين مخلصين لمشروعها، ورموا كلَّ التّهم، ووزَّعوا كل صكوك غفرانهم لضرب العروبة وبلاد العرب والخليج، فيما أثبت أنه هو حائط الدفاع الأوّل، وربما الأخير، أمام الزحف الإسرائيلي المستجد في المنطقة العربية ودول الطوق لفلسطين.
نقلا عن جنوبية