السياسي – تشكل المفاوضات إحدى الألعاب الأمريكية للانتقال من الحرب إلى السياسة والتحول من السياسة إلى الحرب، فلا تعدو المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة عن كونها وسيلة سياسية ملازمة للحرب لإنقاذ مشروعها المتداعي في الشرق الأوسط، وحماية حليفتها الوحيدة المدللة في المنطقة، إسرائيل، التي نفذت عمليتي اغتيال متهورتين استهدفتا القائد العسكري الكبير في حزب الله اللبناني فؤاد شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران.
ورغم ادعاء واشنطن أنها غاضبة من عملية الاغتيال، ورغم تعبير جو بايدن عن استيائه، إلا أن الولايات المتحدة راسخة في مسعى إنقاذ حليفتها من أي سلوك متهور آخر، إذ تخشى واشنطن من أن تؤدي عمليتا الاغتيال إلى رد فعل انتقامي من قبل إيران وحزب الله يعقبه رد فعل إسرائيلي على رد الفعل الانتقامي، مما يؤدي إلى ضربات متبادلة تقود إلى حرب شاملة في المنطقة يشارك فيها جميع حلفاء إيران من محور المقاومة، وتنجر إليها الولايات المتحدة، وهو ما لا ترغب فيه وتسعى إلى تجنبه وتدرك كلفته العالية، وكارثيته على صعيد الانتخابات وتبخر فرص الإدارة الديمقراطية التي دخلت المرحلة الأخيرة من حملة الانتخابات الرئاسية.
إن الهدف الرئيس للولايات المتحدة بإظهار جدية المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة، وإشاعة أجواء من التفاؤل والتهديد باعتبارها الفرصة الأخيرة، هو محاولة لتأخير هجوم إيران وحزب الله باستهدف إسرائيل أو تأجيله إلى أجل غير مسمى تحت ذريعة ديمومة المفاوضات الجدية، ثم محاولة كبح ومنع وردع إيران من خلال تهديدها، بحيث تصبح المفاوضات لعبة تفضي إلى مخرج من الانزلاق إلى مزيد من التصعيد الإقليمي.
فالرئيس الأمريكي جو بايدن ينظر إلى الاتفاق باعتباره “المفتاح لمنع نشوب حرب إقليمية”، وقال إنه “يتوقع” أن القادة الإيرانيين سوف يؤخرون الضربة أو يؤجلونها إلى أجل غير مسمى إذا تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ولكن نهاية الجولة الأولى من المفاوضات لا تشير إلى تقدم حقيقي، ولا يبدو أن الإغراءات المترافقة مع التهديدات المقدمة إلى إيران كافية لردعها عن تنفيذ ضربة كبيرة لإسرائيل. ولا شك أنه في حال التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة سوف يؤدي إلى تخفيض حجم الضرية الإيرانية لكنه لن يوقفها، وقد نشهد تكرارا لسيناريو نيسان/ أبريل الماضي.
كان من الواضح منذ البداية أن إيران لن تشن أي هجوم على إسرائيل عقب الإعلان عن مفاوضات جدية، وأنها سوف تنتظر حتى انتهاء فترة مفاوضات الجولة الأولى المتعلقة بوقف إطلاق النار. وقد أعلنت الولايات المتحدة ومصر وقطر في 16 آب/ أغسطس أن مفاوضات وقف إطلاق النار ستستأنف في القاهرة قبل نهاية الأسبوع الحالي، لكن لا أحد يعلم ما إذا كانت إيران ستؤجل هجومها حتى انعقاد الجولة التالية من المفاوضات في القاهرة، فقد قال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في 14 آب/ أغسطس: إن “التراجع غير التكتيكي” عن توجيه ضربة انتقامية تستهدف إسرائيل أمر غير مقبول، مما يعني أن التراجع التكتيكي سيكون مقبولا. وحسب بعض التقديرات فإن حزب الله لن ينفذ أي هجمات ضد إسرائيل طالما استمرت مفاوضات وقف إطلاق النار بصورة جدية، لأن الحزب لا يريد أن يُنظر إليه على أنه يقوض احتمالات التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، لكن ذلك لا يعني وقف الهجمات الانتقامية فهي حتمية، ولكن حدتها وشدتها ونطاقها يخضع لحسابات مختلفة.
في حقيقة الأمر تتمتع إيران بخبرة طوبلة في لعبة المفاوضات، وهي تجسد مبدأ “الصبر الاستراتيجي”، وهي تنتظر نتائج المفاوضات بصبر وصمت، بعيدا عن لعبة الكلمات ولغة المشاعر غير المجسدة إلى حقائق ووقائع، إذ تخلق واشنطن أجواء من التفاؤل، ويعرب الوسطاء الأمريكيون والمصريون والقطريون عن تفاؤلهم بشأن محادثات وقف إطلاق النار ومسألة الرهائن، لكن الحقائق أن حماس لم تشارك رسميا في المفاوضات، وقد اختتمت إسرائيل والوسطاء الدوليون يومين من محادثات وقف إطلاق النار في الدوحة، قطر، في 16 آب/ أغسطس. وقدم المسؤولون الأمريكيون “اقتراحا مؤقتا” جديدا لـ”كلا الطرفين” خلال المحادثات، وأصدرت الولايات المتحدة ومصر وقطر بيانا مشتركا في 16 آب/ أغسطس يؤكدون فيه على أن المحادثات كانت “جادة وبنّاءة وتم إجراؤها في أجواء إيجابية”.
على النقيض من الحديث عن الأجواء الإيجابية، فإن المحادثات لم تحل أكبر قضيتين متبقيتين؛ تتعلقان بالوجود الإسرائيلي في قطاع غزة أثناء وقف إطلاق النار، وبحسب الوسطاء فإن الخلافات لا تزال قائمة حول استمرار سيطرة إسرائيل على ممر فيلادلفيا على الحدود بين مصر وقطاع غزة، وحول إنشاء آلية نقاط تفتيش إسرائيلية بحجة منع مقاتلي المقاومة الفلسطينية من العودة إلى شمال قطاع غزة. وقد دعت حماس مرارا وتكرارا إلى انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، بما في ذلك يوم 15 آب/ أغسطس، واعترف مسؤول أمريكي بأن الصفقة الأمريكية “ليست مثالية” لكنها “أفضل صفقة ممكنة في الوقت الحالي يمكن أن تؤدي إلى إطلاق سراح الأسرى، وتخفيف معاناة شعب غزة وتقليل خطر الحرب الإقليمية”.
ولذلك، لم تعترف حماس رسميا بالاقتراح الأمريكي، وأعربت عن استيائها من الاقتراح لأنه يطرح شروطا جديدة، وأصرت حماس على الالتزام بالاقتراح الذي وافقت عليه في الثاني من تموز/ يوليو الماضي. أما إسرائيل فتصر على ما تعتبره مبادئ أساسية أعلنتها يوم 27 أيار/ مايو الماضي، حيث سلّمت إسرائيل ثلاثي الوساطة المكون من الولايات المتحدة الأمريكية وقطر ومصر مقترحا جديدا، يتضمن استعدادا لمناقشة مطلب حركة حماس بالهدوء المستدام وعدد المحتجزين الأحياء الذين سيتم إطلاق سراحهم في المرحلة الأولى، إضافة إلى بنود متعلقة بالوجود العسكري في محور فيلادلفيا والفحص الأمني للنازحين الفلسطينيين العائدين إلى شمال غزة.
وتطالب حماس الوسطاء بتقديم خطة لتنفيذ ما قبلته في الثاني من تموز/ يوليو الماضي، استنادا إلى رؤية الرئيس الأمريكي، وقرار مجلس الأمن 2735، وإلزام إسرائيل بذلك، بدلا من الدخول في مفاوضات جديدة. وانتقد مصدر قيادي بحركة حماس في حديث للجزيرة المقترح الأمريكي الجديد، وقال إنه يستجيب لشروط الاحتلال ويتماهى معها، وأشار إلى أن الحركة تأكدت مجددا أن الاحتلال لا يريد اتفاقا، ويواصل المراوغة والتعطيل ويتمسك بإضافة شروط جديدة لعرقلة الاتفاق.
لا جدال في أن الولايات المتحدة تسعى إلى إنقاذ إسرائيل من خلال لعبة المفاوضات، لكن إيران وحزب الله ومحور المقاومة وحركة حماس باتت تتوافر على خبرة واسعة في التعامل مع هذه الألعاب، ودون أن يحدث اختراق حقيقي وجدي فالاحتمالات بتوسع الحرب والدخول في مرحلة جديدة من الاستنزاف مسألة حتمية. إذ تواصل إيران التأكيد على تنفيذ ضربة انتقامية خطيرة ضد إسرائيل، وقد نشر حزب الله اللبناني، في 16 آب/ أغسطس، مقطع فيديو يُظهر أحد الأنفاق في شبكة أنفاقه في لبنان، ويظهر تطور قدرات حزب الله، في إشارة إلى ردع إسرائيل عن شن هجوم كبير ضد الحزب في حال الرد الإيراني. وتضمن الفيديو صورا لمقاتلي حزب الله وهم يتواصلون عبر أجهزة الكمبيوتر المحمولة ويقودون دراجات نارية عبر الأنفاق تحت الأرض. ويظهر الفيديو أيضا شاحنات تحمل الصواريخ عبر الأنفاق إلى موقع الإطلاق، وترافق مع صوت من خطاب ألقاه زعيم حزب الله حسن نصر الله عام 2018 بترجمة عبرية وإنجليزية، وقال نصر الله إن قدرات حزب الله المسلحة تعني أنه “إذا فرضت إسرائيل حربا على لبنان، فإن إسرائيل ستواجه مصيرا وواقعا لم تتوقعه”.
لم تدخر الولايات المتحدة أي وسيلة الإنقاذ المستعمرة الصهيونية والحفاظ على مشروعها الخاص بالهيمنة في الشرق الأوسط، فالحفاظ على وجود الكيان الإسرائيلي وضمان تفوقه يعد ركيزة رئيسية لديمومة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار مساعديه على أن أولويتهم القصوى هي احتواء الحرب ومنع الغزو الإسرائيلي لغزة من الانتشار وتحوله إلى حرب إقليمية، وهو ماض في إمداد إسرائيل بكافة احتياجاتها العسكرية والمالية، ولا يمل من الدفاع عن جرائم الإبادة الجماعية وتغطيتها دبلوماسيا وسياسيا في جميع المحافل الدولية. فعلى مدى أكثر من عشرة أشهر تجنب بايدن المسار الأكثر نجاعة ومباشرة لخفض التصعيد على جميع الجبهات، من خلال التلويح بحجب الإدارة الأمريكية بعض الأسلحة والمساعدات الأمنية الأخرى، ولم يمارس بايدن أي ضغوطات حقيقية على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار، بل إن بايدن يقدم المزيد لإسرائيل والحوافز لنتنياهو.
فحسب تقرير لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، قدم بايدن في الأيام العشرة الأخيرة المزيد من الهدايا، إذ فُتحت فجأة جميع “الأختام” التي كانت موجودة على الشحنات والموافقات على المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، وبدأت طائرات نقل ضخمة تهبط بمعدل طائرتين يوميا في مطار “النبطيم”، إضافة إلى السفن التي تشق طريقها أو الراسية بالفعل عند شواطئ إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، ستعمل الولايات المتحدة على تعزيز قواتها البحرية والجوية المنتشرة في الشرق الأوسط، بطريقة تسمح ليس فقط بإحباط الانتقام الإيراني،
بل ستتيح أيضا للقوات المسلحة الأمريكية مهاجمة حلفاء إيران على الأقل في حال تطور حرب إقليمية، وبشكل أساسي لحماية الجنود والمواطنين الأمريكيين، الذين يتواجد عشرات الآلاف منهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وتهدف إدارة بايدن من خلال هذا الدعم إلى إقناع نتنياهو بأنه يستطيع أن يثق بالولايات المتحدة ويظهر قدرا أكبر من المرونة في المفاوضات.
خلاصة القول أن الولايات المتحدة تعمل من خلال المفاوضات على إنقاذ حليفتها المدللة إسرائيل وضمان ديمومة هيمنتها على الشرق الأوسط، إذ تتشارك واشنطن مع تل أبيب الأهداف الاستراتيجية، فالسعي الأمريكي لإنقاذ إسرائيل هو في حقيقته سعي لإنقاذ المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، بعد حالة القلق والشك من فقدان أمريكا نفوذها وهيمنتها التقليدية التاريخية في المنطقة، وخصوصا أن عملية “طوفان الأقصى” جاءت في زمن اللا يقين التفردي الأمريكي وفي ظل تحولات وتحديات جيوسياسية دولية وإقليمية، وظهور إرهاصات نظام دولي يبشر بتعددية قطبية.
فقد حلت عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في لحظة تاريخية كانت الطموحات الأمريكية والإسرائيلية جامحة بإعادة بناء الشرق الأوسط في ظل هيمنة إمبريالية أمريكية تقوده المستعمرة الصهيونية، ويقوم على تصفية القضية الفلسطينية وبناء تحالف مع الأنظمة الاستبدادية العربية في إطار “الاتفاقات الإبراهيمية” بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية.
فإسرائيل لا تعدو عن كونها قاعدة عسكرية أمريكية غربية في المنطقة العربية، وقد حرصت الولايات المتحدة منذ تدخلها في المنطقة على ضمان أمن إسرائيل وتفوقها على المنطقة، ومارست ضغوطات شتى على كافة دول الشرق الأوسط لإدماج المستعمرة الصهيونية وطبعنة وجودها دون تقديم أي حلول عادلة للقضية الفلسطينية، لكن التطورات هذه المرة بذهاب المنطقة إلى شفير الهاوية لا تنقذه لعبة المفاوضات وخداع الكلمات، وشراء الوقت، ولذلك فإن الولايات المتحدة تمارس المزيد من الضغوطات على دول المنطقة التي لم تعد تحتملها وهي توشك على الانفجار، ودون تحقيق وقف لحرب الإبادة في غزة، والذهاب إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، فإن شعوب المنطقة ستنفجر في وجه القبح الإمبريالي الأمريكي والاستعماري الصهيوني والاستبدادي العربي.
x.com/hasanabuhanya