لماذا أكتب عن فلسطين؟ لأن الكلمة خندق، والسكوت عار، والحياد خيانة

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

أكتب عن فلسطين، لا لأنني أبحث عن حظٍّ عابر في جريدة، أو زاوية تزيّن اسمي بين ضجيج الفارغين، ولا لأنني أستعذب البكاء على أطلال الكلمات، بل لأنني اخترت منذ اللحظة الأولى أن أكون في صفّ الحقيقة، في قلب المعركة، في عين العاصفة، حيث لا مجال للزيف، ولا موطئ قدم للمتسللين. أكتب وأنا أعلم أن البعض يضيق صدره كلما نطقت باسم فلسطين، لأنهم تعوّدوا أن يبتلعوا القضايا، ويأكلوا من موائد الصامتين، ويتاجروا بدماء الشهداء كما يتاجر الجبناء بأعراض الكلمات. أكتب لا لأنني صحفي يهوى الحكاية، بل لأن الحكاية اختارتني، لأنني عبرت بوابات المخيمات لا كسائح، بل كمن يعرف أن وراء كل نافذة حكاية مقاومة، وراء كل حجر شهادة ميلاد لفدائي، وراء كل جدار شهقة أمّ تنتظر أن يعود ابنها من ليل الاحتلال أو من ضوء الشهادة. أكتب لأنني رأيت بأمّ عيني من يبيعون الوطن في سوق الخُطب، ويزايدون على شعبٍ علّم الدنيا كيف تُقاوم وكيف تُصلي تحت النار، وكيف تُنجب الرجال من رحم المجازر. أكتب لا لأنني أحب الزهور كما يثرثر المتنطعون، بل لأنني شممت رائحة الموت في عيون الأطفال، ولمست الشوك في يد امرأة تمسح التراب عن قبر ابنها، ولا تزال تقول: “الحمد لله، شهيد”. أكتب لأنني لا أطيق النفاق، ولا أطيق أن أكون في موقع المتفرج فيما الطائرات تمزّق سماء غزة، والجنود يحاصرون القدس، والرماد يتراكم في عيون الأمهات، والصمت العربي يعلو كصوت الطبول في جنازات الشرف. أكتب لأنني ابن هذا الزمن المكسور، ولكنني لا أقبل أن أكون عبدًا في قطيع التبرير، ولا أن ألبس جُبّة التحليل البارد بينما دماء الفلسطينيين تُفرش الطرقات، وأصواتهم تُكسر على عتبات المؤتمرات العقيمة.

أنا لا أكتب حبًا في فلسطين وحدها، بل أكتب لأنني أكتب عن كل ما يعيدني إلى نفسي. عن العدالة التي نُحرت، عن الكرامة التي تُشنق كل مساء على شاشة التطبيع، عن العقل العربي الذي أصبح عبدًا للمذلة، يبرّر للمحتل ويسخر من الشهيد، ويمسح لعابه على نعل المجرم. أكتب لأنني لم أتعلم الصمت، ولأنني لا أساوم، ولأنني لا أطيق الازدواج، ولا أغفر للمخاتلة، ولا أعانق من يدوس على الجراح بابتسامة ندلٍ بارد.

أكتب لأن فلسطين ليست نشرة أخبار، ولا صورة على الجدار، ولا صدى صوتٍ في قاعة مؤتمرات ميتة، بل هي امتحان يومي للضمير، كلما كتبت عنها شعرت أنني على قيد الحياة، وكلما سكتّ عنها خجلت من أن أواجه وجهي في المرآة. أنا لا أكتب لأحصل على مديح أو جائزة، بل أكتب لأني أومن أن الكلمة موقف، وأن الحبر حين يُسفك من أجل قضية عادلة يتحول إلى دم لا يموت. أكتب لأني لا أقبل أن يُختزل الشعب الفلسطيني في أرقام على الشاشات، ولا أن يُحاصر في حكايات مغلقة كتلك التي يلوكها المتنطعون وأرباب الحياد، الذين لا يعنيهم إن سقطت مدينة أو انتهك عرض، ما داموا يحتفظون بمنصة يلوّحون من فوقها بتفاهاتهم المصقولة، ويتشدقون بلغة ميتة لا تُقاوم الاحتلال ولا تُغضب السفارات.

أكتب لأنني قابلت المقاومين لا في الروايات، بل في الحياة. صافحت أسرى محررين لم يتكلموا عن بطولاتهم، بل عن زنازينهم، عن صمت العالم، عن أحذية السجان، عن سنوات ضاعت في عتمة لم تُطفئ أرواحهم. جلست إلى مثقفين فلسطينيين ليسوا كغيرهم، لم يستعرضوا مصطلحات الحداثة بل رفعوا رؤوسهم وقالوا لي: نحن لا نكتب لنكون، نحن نكتب لنُبقي فلسطين في الوعي، في اللغة، في الهواء. أكتب لأنني لا أستطيع أن أتنفس في عالمٍ يعتبر أن قتل طفلٍ فلسطيني مسألة “أمنية”، وأن ذبح عائلة كاملة “حادث عرضي”، وأن اغتيال الصحفيين مجرّد خطأ “غير مقصود”.

أكتب لأنني أدرك أن قلمي هو سلاحي، وأن الكلمات إن لم تُطلق في وجه القتلة فإنها تتحوّل إلى خناجر تطعن الضحية. أكتب لأن فلسطين ليست خطابة، بل وجع حي، ولأنني كلما ابتعدت عنها فقدتُ طعمي، وضعتُ بوصلتي، وشاركت بصمتي في جريمة تمتد من النكبة إلى النكسة إلى كل نكبة نعيشها اليوم تحت راية الخضوع والانبطاح. أكتب لأن البعض يظن أن فلسطين “موضة قديمة”، بينما هي النبض الوحيد الذي يذكّرنا بأننا لم نمت تمامًا. أكتب لأنني لا أرتدي فلسطين في المناسبات، بل ألبسها كل يوم على كتفي، على لغتي، على هويتي، لأنها ليست ورقة بل جذور. أكتب رغم أنف المشككين، ورغم وقاحة المتنطعين، ورغم ضجيج المصفقين للقتلة، لأني اخترت أن أكون حيث يجب أن يكون الشرفاء: في خندق الكلمة، في مواجهة القبح، في حضرة الدم النقي.

أكتب لأنني ببساطة، لا أقبل أن أكون حيًا بينما يُقتَل الأطفال على الملأ، وتُكسر عظام الأسرى في الزنازين، وتُسرق أرض بأكملها، وتُشوَّه القيم، ويُلوَّث التاريخ. أكتب لأن فلسطين تسكن في صوتي، وتكبر في لغتي، وتوقظني كل صباح، وتُسائلني إن تأخرتُ عن حملها. أكتب لا لكي أُقنع المتنطعين، ولا لأردّ على المشككين، بل لأُبقي الحكاية مفتوحة على الأمل، ولأقول في وجه العالم: نحن هنا، لا نطلب شفقة، بل نكتب لنُقاوم، لنحيا، لنُدين، لنمنع موت المعنى، لأن موت فلسطين هو موتنا جميعًا، لأننا إن سكتنا، فإننا نكتب النهاية بأيدينا.