في سياقات الواقع المعقد، والصراع المعقد، والشعور الطاغي بفقدان الأمل، فإن زيارة وزراء الخاحية العرب إلى رام الله، كانت بهذا المعنى، هي زيارة تاريخية بكل المقاييس، ومن المنصف القول ان العرب ومنذ عقود لم يتصرفوا بهذا الذكاء، وهذا المنطق العملي الذي يمكن ان يقود إلى سلام ينهي الصراع، الذي أرهق المنطقة والعالم. ومن دون شك ان هذا ما كان يحصل لو لم يكن العالم العربي يمتلك قيادات جديدة تنظر للأمور بواقعية، بعيدا عن الشعارات والمزايدات. والأهم انها تستخدم أوراقها بمهارة، وتدرك وزنها الحقيقي في ميزان المصالح الدولية.
وإذا أردنا أن نكون صريحين مع أنفسنا، وعن معرفة عميقة لتاريخ الصراع وواقعه، وأيضا عن معرفة عميقة للسياسة الدولية، فإن ما نراه من سياسة عربية تتصف بالحكمة والدقة في رسم السياسات، واتخاذ الخطوات الصحيحة. فإن مثل هذا التطور لم نره منذ أن نشأت القضية الفلسطينية بكل مراحلها. فما نراه يحدث للمرة الأولى.. ان يظهر العرب فهما مختلفا لما يجري من حولهم، وفهما اعمق لطبيعة المشروع الصهيوني، الذي لم يفلح العرب من هزيمته عام 1948، ولاحقا، ادركوا عن وعي انها بالسلام يمكن ان تضع حدا لتوسع هذا المشروع وتحويله من حالة معادية إلى حالة متعايشة مع واقع المنطقة.
العرب ومعهم القيادة الفلسطينية آنذاك، بعد ان صوتت الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة لصالح تقسيم فلسطين في نهاية العام 1947، وبدل ان يتلمسوا المتغيرات الدولية الهائلة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، ويحاولوا التقليل من الخسائر ودعم ان تقوم دولة فلسطينية معترف بها، ذهبوا للحرب، معتقدين ان هزيمة “الييشوف اليهودي” في فلسطين هي نزهة، وانتهت الحرب بنكبة فظيعة على كل المستويات. ومنذ ذلك التاريخ تناوب على العرب أنظمة جاءت جميعها تقريبا في انقلابات عسكرية. وكانت تعتقد أن شرعيتها تستمد في جانب مهم منها من القضية الفلسطينية والإمساك بأوراقها وقرارها، وسالت خلال عقود الكثير من الدماء والحقت بالأمة الكثير من الهزائم امام إسرائيل.
ان الواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم، والخراب الذي لحق بالعديد من الدول العربية ما هو إلا نتاج تلك المراحل، التي لم تجلب السلام ولم تحرر شبرا من فلسطين، والأرض العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران/ يونيو 1967.
أي عاقل اليوم، واي مطلع على التاريخ، وما فيه من خيبات، يدرك ان زيارة وزراء خارجية الدول العربية إلى دولة فلسطين، كانت لتكون زيارة تاريخية، ليس بالمعنى القديم لهذا المصطلح الذي كان فارغا، وممجوجا، بل للمرة الأولى تحمل هذا المضمون، لأنها تأتي في السياق الصحيح المنتج، أو الذي قد ينتج. بمعنى آخر اننا اليوم امام سياسة عربية فاعلة ومن لا يرى ذلك فهو لا يزال يعيش في الماضي.
المسألة الأخرى المهمة هي ان الزيارة كانت ستأتي كدعم للشرعية الوطنية الفلسطينية، وأبعد من ذلك لفكرة الدولة الفلسطينية، التي لا يمكن العبور الآمن بها إلا من خلال الشرعية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت اتفاقا لإعلان المبادئ مع إسرائيل العام 1993، وتبادلت الاعتراف معها. ولكي نكون منصفين، فإن القيادة الفلسطينية الشرعية تشعر للمرة الأولى انها تحظى بدعم عربي نزيه، همه ان تكون للشعب الفلسطيني دولته، لا أن تأتي أطراف لتحاول استخدام القضية الفلسطينية، وندخل في دوامة السياسة العقيمة مرة أخرى، ان دعم السلطة الفلسطينية الشرعية لا إضعافها وتفكيكها هو الذي يقربنا من الاستقرار والأمن في المنطقة.
هناك شعور متزايد ان الأمة العربية دخلت مرحلة النضوج السياسي، وهنا، ونحن نرى في كل وزير عربي كان سيصل الى رام الله إلى أنه يمثل مرحلة النضوج هذه، ولكن لا بد من الإشارة ونحن نبحث عن الإنصاف إلى الدور السعودي الذي يقود هذه السياسة، وهذه الدبلوماسية الواعية هي أكثر ما يرمز لهذا النضج. الأصوات التي لا تزال تعيش في الماضي المتلعثم تحاول التلميح دائما أن عين السعودية على التطبيع مع إسرائيل، ما يمكن ان يقال لمثل هذه الأصوات: انظروا للمتغيرات من حولكم، المتغيرات من حول العرب وداخلهم، وان الشيء الملموس ان السعودية لا تلتزم بما تقوله دائما ان طريق التطبيع يمر عبر الدولة الفلسطينية وحسب، بل هي تنفذ ذلك بذكاء ومن خلال نظرة عميقة للمتغيرات والواقع الدولي، والعمل على استثمار الانجاز من لحظة يكاد يكون فيها الأمل بالنسبة للشعب الفلسطيني مفقودا.. هكذا نفهم زيارة وزراء الخارجية العرب، وهم بالتأكيد يمثلون جميعهم العصر العربي الجديد، ولهذا شعرت إسرائيل بالقلق الشديد ومنعت الزيارة حتى كتابة هذه السطور.. نأمل أن تفلح الضغوط ويصل وزراء الخارجية العرب إلى رام الله، كي يأخذ الفعل معناه.