إذا كان العقل في لغة العرب, يعني التحديد والتقييد, حيث ارتبط العقل هنا بكلمة عقال التي تفيد تقييد ساق الناقة حتى تبقى في مكانها. فإن دلالات العقل على المستوى الفلسفي, ظلت في سياقها العام قضية خلافيّة وإشكاليّة لدى المفكرين والفلاسفة على كافة مستوياتهم ومدارسهم, واتجاهاتهم الوضعيّة منها والدينيّة معاً. فهناك من اعتبر العقل ملكة وقوة من قوى النفس, وظيفتها استنباط الحقائق, وبها نستطيع تجاوز ما هو حسي وجزئي ومتعدد, إلى ما هو مجرد وكلي وواحد. ومن المفكرين الذين قالوا بهذه الرؤية الفيلسوف ” الكندي” في كتابه ( رسالة في حدود الأشياء ورسومها), حيث جاء عنده أن العقل ( جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها). وهناك من قسم العقل إلى عقل نظري مجاله البحث في قضايا الرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقيا والمنطق, وإلى عقل عملي, ومجاله السياسة والأخلاق, وهذا ما قال به الفيلسوف “الفارابي” في كتابه ( فصول منتزعة) حيث اعتبر القوة الناطقة (العقل), بأنها القوة التي َيعْقَلُ بها الإنسان, وبها تكون الرؤية, وبها تبنى العلوم والصناعات, وبها يميز ما بين الجميل والقبيح.
هذا في الوقت الذي نجد فيه من يعتبر العقل أيضاَ عبارة عن مجموعة من القدرات والمهارات والتقنيات والمناهج التي تمكّن من الاستدلال والبرهنة, وهذا العقل في توصيفه يختلف ويتطور في مهاراته وقابلياته من مرحلة تاريخية إلى أخرى وفقاً لمجالات نشاطه. فالعقل وفقاً لهذه المعطيات هو وعي الإنسان المكتسب تاريخيّاً عبر علاقة هذا الإنسان مع الطبيعة والمجتمع معاً, أو بتعبير آخر العقل هو ما اكتسبه الإنسان عبر تنشئته التاريخيّة بكل ما تحمل هذه التنشئة من معطيات ماديّة وروحيّة. وهذا الفهم الأخير للعقل يدفعنا في المحصلة إلى تجاوز فكرة تعريف العقل, والنظر إلى تعيينه, أي تعيين الظروف التي تنتجه وتحدد بالتالي طبيعته ومهاراته وقدراته في هذه المرحلة التاريخيّة أو تلك, وضمن هذا الحقل المعرفي أو ذاك.(1).
إن العقل إذن, هو المعرفة الإنسانيّة, ووعي الإنسان بذاته وما يحيط به, معيناً في مرحلة تاريخيّة محددة. أو بتعبير آخر, هو المعرفة الإنسانيّة في سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين. وبذلك يكون العقل خاضعاً بالضرورة لظروف إنتاجه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والبيئيّة, وهي وحدها من يمنح العقل شقاءه, ممثلاً هنا في رؤاه الأسطوريّة, والامتثال والإطلاق والنقل والثبات, وفصل العقل أو المعرفة عن العالم الواقعي المحيط به. في الوقت الذي تمنح فيه العقل تاريخيته أيضاً (عقلانيته), بحيث يصبح محايثاً للعالم, ومترافقاً مع معطياته الماديّة والفكريّة في حركتها وتعددها وتبدلها وكليتها ونسبيتها وجدليتها.
كاتب وباحث من سوريّة.