بعيداً عن الشعارات والكلمات الجوفاء والبيانات المندّدة والشاجبة والمستنكرة والغاضبة، والمسيرات الشعبية والمهرجانات الخطابية والوقفات الاحتجاجية والإضرابات التضامنية، ثمّة حقيقة ساطعة، أننا جميعاً، بلا استثناء، شعوباً وحكومات وهيئات مدنية وأشخاصاً عاديين، تركنا غزّة وحيدة تواجه أحقر جيش مدعوم من أقوى الدول. بعد 27 يوماً، بالتمام من يوم الناس هذا، سيكون قد مرّ عام على حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة وفي الضفة الغربية. ولا يبدو أنّ هذه الحرب الإجرامية ستتوقف، لأنّ الصهاينة يريدونها حرباً فاصلة في تاريخهم الاحتلالي الاستيطاني التطهيري، وكلما طال أمد الحرب ازداد بطش الصهاينة وعنفُهم وحقدُهم وإجرامهم وغطرستهم وساديّتهم وجنونهم الذي تجاوز كل الحدود، وحطّم كل الأرقام القياسية في عدم احترام الحدّ الأدنى من الأخلاق البشرية والقيم الإنسانية، وانتهك كل القوانين والمواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية والإنسانية.
عام ونحن نشاهد يومياً عشرات الأبرياء يُقصفون ويُحرقون ويُذبحون أمامنا، أطفال ونساء وشيوخ، ومواطنين عاديين مثلنا، وتنهال عليهم نيران أقوى وأحدث الأسلحة وأشدّها فتكاً بالبشر والحجر، ونحن نتفرّج صامتين، وحتى عندما نحتجّ نعود في المساء إلى بيوتنا ونطفئ التلفاز حتى لا نرى مزيداً من الصور التي تفجعنا وتؤلمنا لنعود إلى روتيننا اليومي، ندفن وجوهنا في كؤوس بؤسنا، ونشغل وقتنا بما يُنسينا خيبتنا وعجزنا وخوفنا.
صمتنا، بل تخاذلنا وجبننا، هو الذي يجعل الاحتلال ومليشيات جيشه وعصابات مستوطنيه يستقوون على أهل غزّة المشرّدين وعلى سكّان الضفة الغربية العزّل، يستبيحون دمهم وأرضهم وعرضهم، ويهدمون بيوتهم ويحرقون خيامهم ويجوّعون أطفالهم ونساءهم ويعدمون مرضاهم ويعذّبون ويغتصبون أسراهم وينبشون قبور شهدائهم. ورغم كل هذه الفظاعة، نظلّ نحن في أضعف حالات الإيمان، صامتين خائفين منتظرين، وفي أسوأ الحالات غير مكترثين أو يائسين محبطين، وبعضنا من الشامتين والمبرّرين لمغول العصر الحالي جرائمه وطغيانه وعربدته وساديّته.
مؤلم هذا الزمن الرديء الذي نعيش فيه، فما أتعسنا حين تستغيث بنا غزّة فلا تجدنا، وقد تركناها عاماً كاملاً، وهي تواجه واحداً من أبشع أنواع الاستعمار في التاريخ وأحقرها وأسوئها، ابتلى الله به الفلسطينيين، ينفّذه حثالة من البشر لا أخلاق ولا قيم لهم، يملأ صدورهم الغلّ والكراهية والحقد والثأر، تحرّكهم عقيدة دينية عنصرية فاشية، تصوّرهم فوق كل البشر، وتضعهم فوق كل القوانين والعهود والأعراف، وتبيح لهم سفك الدماء وقتل الأبرياء وتشريد الناس من بيوتهم وقصفها فوق رؤوسهم وإحراقهم داخلها وهم نيام، واعتقالهم وتعذيبهم والتنكيل بهم واغتصابهم، والاستيلاء على أراضيهم واحتلال بيوتهم وسرقة ممتلكاتهم وتهجيرهم من أرض أجدادهم وطردهم من وطنهم وتجريدهم من جنسيتهم ومن إنسانيّتهم ووصفهم بالوحوش والحشرات والإرهابيين والمخرّبين، وهلم جراً من تعابير لم تُستعمل حتى في حروب العصور المظلمة من تاريخ الحروب البشرية.
لا تواجه غزّة في هذه الحرب الظالمة دويلة إسرائيل وحدها، فهذه انهزم عسكرها ومستوطنوها في السابع من أكتوبر (2023)، وإنما تواجه المشروع الصهيوني الكبير المدعوم مادياً وعسكرياً وسياسياً وإعلامياً واقتصادياً من قوى إمبريالية عظمى، في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأستراليا وكندا ودول أخرى لا تعدّ، لكن الأنكى أنه مباركٌ من أنظمة استبدادية ورجعية عربية، ترى فيه خشبة نجاتها من غضب شعوبها يوم تثور في وجهها.
ما يحدُث في فلسطين المحتلة على أرض غزّة وفي الضفة الغربية، منذ “7 أكتوبر”، أصبح، بحقّ، شاهداً على أكبر كارثة إنسانية في عصرنا الحديث، فخلال عام قُتل أكثر من 41 ألف فلسطيني، وجُرح أكثر من مائة ألف، وأغلب هؤلاء من الأطفال والنساء، من دون احتساب المفقودين في سجون الاحتلال أو تحت الدمار، وهو ما يمثل أكثر من 5% من سكّان غزّة، وهذا رقم قياسي لم يسجل حتى في الحرب العالمية الثانية! وكل ما تثيره فينا هذه الأرقام، رغم فداحتها، مشاعر التعاطف الإنساني، لمن بقيت في ضميره قيمة لهذه المشاعر.
منذ عام ونحن نرى المشاهد نفسها ونتابع القصص نفسها لمآسي أطفال ونساء، بل شعب بكامله عالق بين النار والدمار، يهربون من القصف الذي يلاحقهم في ملاجئهم، يهجّرون مرّات ومرّات، وهم يعانون من النقص الحاد في الغذاء وفي مياه الشرب، بدون أدوية أو خدمات صحّية. تتكرّر الفظائع مرة تلو الأخرى، المدرسة نفسها تُقصف مرّات عديدة، والمستشفى نفسه يُقصف ويقتحم أكثر من مرّة، وكل يوم أطفال ونساء ورجال عزّل يُستشهدون ويُعتقلون ويُهجّرون، وعائلات تُباد بكاملها، وأماكن تُمحى عن وجه الأرض. والكل يلتزم الصمت.
أين ذهبت النخوة والمروءة العربيتان؟ كيف صمتنا عاماً على كل هذه المظالم الإنسانية التي تحصل ضد شعب أعزل؟ لماذا لا تمتلئ شوارع العواصم العربية وميادينها بالمتظاهرين والمحتجّين حتى تتحرّك الأنظمة أو تهتزّ عروشها تحتها؟ كيف ننام ونستيقظ كل صباح نقرأ عدد الشهداء كما نُطالع نشرة أحوال الطقس، ونمضي إلى حال سبيلنا؟ يا ويلنا ما أتعسنا، خذلنا غزّة وأهلها وأيتامها وثكلاها وأراملها وجرحاها وأسراها وشهداءها، تركناهم جميعاً يتألّمون وحيدين ويقاتلون وحيدين يحزنون وحيدين ويستشهدون وحيدين، وكلما كبرت آلامهم وتعاظمت مأساتهم كبر تخاذلنا وانكشف عجزنا وجبننا. وعلى حد قول الشاعر المتمرّد مظفر النوب: ما أوسخنا ونكابر/ ولا أستثني أحداً.