السياسي – رغم أن عبارة “حل الدولتين” ما زالت تتردد في الخطاب الدبلوماسي، فإن ما تعنيه إسرائيل بها اليوم يختلف جذريًا عمّا يفهمه الفلسطينيون أو المجتمع الدولي. فبينما تتحدث واشنطن عن استئناف عملية السلام، تدفع حكومة بنيامين نتنياهو باتجاه إصلاحات جذرية داخل السلطة الفلسطينية كشرطٍ مسبق لأي تقدم سياسي، في حين يرى الفلسطينيون في تلك الشروط ذريعة لتأجيل حقهم في تقرير المصير إلى أجلٍ غير مسمى.
-الإصلاحات المطلوبة: “ابدأوا من التعليم”
أبرز المطالب الإسرائيلية يتركز على إصلاح المناهج التعليمية الفلسطينية.
يقول دانيال شومانثال، رئيس تحرير Jewish Chronicles: “العملية يجب أن تبدأ من التعليم”.
ويستشهد بتقريرٍ أوروبي خلص إلى أن الكتب الفلسطينية “تتضمن سردياتٍ معادية للسامية وتمجيدًا للعنف”، وأنها لا تُظهر إسرائيل على الخرائط، بل تقدّم كامل المنطقة من البحر إلى النهر على أنها “فلسطين التاريخية”.
أما ماركوس شيف، مدير منظمة IMPACT-SE الإسرائيلية، فيذهب أبعد حين يقول إن المناهج الفلسطينية “تغسل أدمغة الأطفال على كراهية الإسرائيليين”، معتبرًا أن أحداث 7 أكتوبر 2023 “نتيجة مباشرة لهذا التحريض”. ويضيف: “يجب نزع التطرف من المجتمع الفلسطيني كما فعلت الإمارات حين أزالت مناهج الإخوان المسلمين واستبدلتها بمفاهيم التسامح”.
-“رواتب الأسرى” تحت المجهر
الشرط الثاني في “قائمة الإصلاحات” هو إلغاء برنامج دفع الرواتب للأسرى الفلسطينيين وذويهم. يقول وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إن السلطة الفلسطينية ما زالت تتبع “نظام الدفع مقابل القتل”، حيث “كلما كان الفعل الإرهابي أشد، زادت المكافأة”.
لكن باريس ردّت بأن البرنامج أُلغي فعلاً في أغسطس الماضي، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي جان نوال بارو، مضيفًا أن مراجعة دولية مستقلة ستتحقق من ذلك قريبًا، وأن “مراجعة المناهج لمنع التحريض جارية”.
أما محمود عباس فأكد أن البرنامج أُعيد تنظيمه في فبراير بحيث تُمنح المساعدات للأسر على أساس الاحتياج المالي لا على طول الحكم، ودعا الولايات المتحدة للتحقق من ذلك بشكل مستقل.
-إسرائيل: “نريد إصلاحًا جذريًا لا شكليًا”
رغم هذه الخطوات، ترى إسرائيل أنها غير كافية. يقول إيران ليرمان، نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق: “نحتاج إلى إصلاحٍ عميق واعترافٍ متبادل بحياتنا الوطنية. إذا تحقق ذلك، فقد تعود إمكانية قيام دولة فلسطينية إلى الطاولة، ولكنها لن تكون دولة كاملة السيادة، بل ما أسميه حل 1.8 أو 1.9 دولة”.
ويضيف أن “الاعتبارات الجغرافية والأمنية تفرض بقاء بعض المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية الدائمة”.
ويتفق معه جوناثان كونريكوس، المتحدث الدولي السابق باسم الجيش الإسرائيلي، الذي وصف 7 أكتوبر بأنه “جرس إنذار” يبرر “الاحتفاظ بالسيطرة على النقاط الإستراتيجية في الأراضي الفلسطينية”.
-“نموذج المدن الثمانية”: تفتيت أم إصلاح؟
تطرح بعض الدوائر الإسرائيلية فكرة تحويل الضفة الغربية إلى ثماني “مدن- دول” الخليل، نابلس، جنين، رام الله وغيرها، على غرار نموذج الإمارات، بحيث تكون لكل مدينة إدارة محلية مستقلة ترتبط بإسرائيل اقتصاديًا وأمنيًا.
لكن منتقدين فلسطينيين وإسرائيليين اعتبروا الخطة شكلًا من البلقنة السياسية يهدف إلى إضعاف فكرة الدولة الواحدة الموحدة. ويصف ليرمان هذه التصورات بأنها “خيالية وغير واقعية”.
-الفلسطينيون: “الإصلاح المطلوب يعني محو تاريخنا”
يرى المحامي الفلسطيني حسن جبارين، مؤسس مركز عدالة لحقوق الإنسان، أن هذه الشروط تهدف إلى إعادة صياغة الهوية الفلسطينية نفسها: “كل مرة تضع إسرائيل والعالم مزيدًا من الشروط على السلطة. إسرائيل تطلب من الفلسطينيين حذف تاريخهم ولغتهم بوصفهم ضحايا، في حين أن التعليم الإسرائيلي نفسه يعزز الاحتلال ويناقض القانون الدولي”.
-البديل: كونفدرالية “أرض واحدة لشعبين”
في مواجهة انسداد أفق “حل الدولتين”، يطرح مثقفون من الجانبين مبادرة “أرض واحدة للجميع” كونفدرالية فلسطينية- إسرائيلية تقوم على المبادئ الآتية: لكل طرف حكومة وبرلمان مستقلان ضمن حدود قريبة من خطوط 1967. وحرية حركة وسكن متبادلة مع احتفاظ كل فرد بجنسيته. ثم بقاء المستوطنين كمقيمين في فلسطين، وعودة اللاجئين كمقيمين دائمين في إسرائيل. وأخيرا تعاون أمني بين سيادتين مستقلتين، مع تنسيق مشترك للمعلومات والاستخبارات.
هذه الصيغة تحاول معالجة معضلتي حق العودة والهواجس الديموغرافية والأمنية، لكنها ما زالت محصورة في الأوساط الأكاديمية والنخبوية.
-الاتجاه الفعلي: نحو الضم لا التقسيم
بينما تُناقش هذه النماذج النظرية، تمضي حكومة نتنياهو في الاتجاه المعاكس تمامًا. فقد عقد الكنيست مؤخرًا أول تصويتٍ تمهيدي على ضمّ أجزاء من الضفة الغربية رسميًا، ومرّ القانون بفارقٍ ضئيل.
وبينما تُطرح “الإصلاحات” بوصفها مقدمةً لـ“حل الدولتين”، يرى مراقبون أن الخطوات على الأرض تشير إلى نهاية هذا الحل وتحويله من مشروع دولةٍ مستقلة إلى كيان إداري منزوع السيادة تحت الهيمنة الإسرائيلية، أو كما سمّاه ليرمان: “حل 1.8 دولة”.







