ما الذي نريده من إسرائيل؟ وما الذي نريده من أنفسنا؟ وهل نستطيع أن نتفاوض دون أن نتنازل، أو نتصالح دون أن ننسى؟

محمد عبد الستار إبراهيم

في لحظة ما بعد الحرب، تجد سوريا نفسها واقفة على حافة سؤال وجودي: ماذا تبقى من الدولة؟ وماذا يمكن أن يُبنى من هذا الركام؟ بعد سقوط نظام الأسد، لم تنهض البلاد على أنقاض دكتاتورية بقدر ما وجدت نفسها في فراغ شامل. اقتصاد منهار، بنية تحتية مدمرة، ملايين اللاجئين والنازحين، ومجتمع خرج من الحرب منقسماً، مجوعاً، ومرهقاً.

في هذا السياق الهش، بدأت تخرج إلى السطح نقاشات كانت قبل سنوات تُعد من المحرمات. يدور الحديث اليوم، همساً أحياناً وجهاراً في بعض الأوساط، عن مفاوضات أو اتصالات بين الحكومة السورية الجديدة وإسرائيل. من كان يجرؤ على النطق بذلك قبل الثورة؟ من كان يتخيّل أن تصبح العلاقة مع “العدو التاريخي” موضع نقاش عقلاني، لا شتيمة أو تخوين؟

لكن يبدو أن الأشياء في سوريا تغيرت بعمق، ليس فقط في شكل الحكم، بل في طبيعة الأسئلة المطروحة. حين يُدمّر وطنك بالكامل، تصبح الأولويات مختلفة. ولعل ما جعل النقاش أكثر جدية هو ما فعلته إسرائيل نفسها خلال سنوات الفوضى، وحتى ما بعد سقوط نظام الأسد، إذ استغلت حالة الانهيار الأمني والعسكري لتشن سلسلة طويلة من الغارات الممنهجة على مواقع الجيش السوري، لا سيما تلك المرتبطة بإيران وحزب الله، مستهدفة مخازن السلاح، المطارات، ومراكز القيادة. ومع مرور الوقت، فقدت سوريا ما تبقى من سلاحها الثقيل، ومنظوماتها الدفاعية، وقدرتها على الرد أو حتى الردع.

هكذا وجدت البلاد نفسها مكشوفة، منزوعة السلاح، بلا جيش فعلي، وبلا مظلة إقليمية أو دولية موحدة. لم تعد دولة مواجهة، بل دولة تبحث عن وسيلة للبقاء. وفي لحظة كهذه، لا تبدو العلاقة مع إسرائيل ضرباً من الخيانة، بقدر ما يُنظر إليها من قبل البعض كمحاولة للتقاط الأنفاس، أو فتح نافذة في جدار العزلة الطويل.

“هل نخون أنفسنا؟” سؤال يهمس به البعض، ويرد عليه آخرون بأننا خُنا أنفسنا يوم خذلنا شعبنا، وخذلنا المبادئ التي رفعتها الشعارات الكبرى. لكن في الطرف المقابل، هناك من يقول إن مقاومة إسرائيل أصبحت اليوم ترفاً نظرياً لا قدرة لنا على تمويله، ولا طاقة لتحمل تبعاته.

وكما قال نزار قباني في قصيدته العصماء “بلقيس”:

لو أنهم حملوا إلينا ..

من فلسطين الحزينة ..

نجمةً ..

أو برتقالة ..

لو أنهم حملوا إلينا ..

من شواطئ غزةٍ

حجراً صغيراً

أو محارة ..

لو أنهم من ربع قرنٍ حرروا ..

زيتونةً ..

أو أرجعوا ليمونةً

ومحوا عن التاريخ عاره

لشكرت من قتلوك .. يا بلقيس.

اليوم، ليس الأمل في الحب بل في النجاة. أملٌ بسيط في استعادة الكهرباء، في إعادة بناء مدرسة، في تأمين عودة آلاف اللاجئين، حتى لو تطلب ذلك علاقات مع أكثر الأطراف كُرهاً في الذاكرة السورية.

لكن هل يمكن التفاوض مع إسرائيل دون أن نخسر الجولان؟ وهل يمكن الفصل بين “الضرورة السياسية” وبين “الحقوق الوطنية”؟ فلسطين، والجولان، والكرامة القومية… كلها قضايا لا تزال حيّة في وجدان السوريين. المشكلة أن هذا الوجدان بات مثقلاً بتجارب خذلان داخلية، حتى لم يعد يثق بشعارات كبيرة قيلت طويلاً دون مقابل حقيقي.

ولعل أبرز ما يؤكد مدى هشاشة الوضع السوري الحالي، هو ما كشفته إسرائيل مؤخراً من حصولها على ملفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدم في دمشق عام 1965. لم تُخفِ إسرائيل فخرها بقدرتها على اختراق العمق السوري، ما يعكس أن الواقع الأمني في البلاد بات هشاً إلى درجة تمكن العدو اللدود من الوصول إلى أكثر ملفات الماضي سرية. في بلد تعصف به الفوضى، وتتصارع فيه الأولويات بين الإغاثة، وإعادة الإعمار، ووقف الانهيار الاقتصادي، أصبحت الملفات الأمنية المرتبطة بإسرائيل شبه مجمدة، لا من باب التساهل، بل من باب الواقعية القسرية. فالحكومة الجديدة، رغم محاولتها ترميم الدولة، تدرك أن فتح جبهة مع إسرائيل – حتى إعلامياً – ليس فقط عديم الجدوى، بل قد يكون كارثياً.

في هذا الخضم، تبرز الحاجة إلى نوع من الشجاعة الفكرية، لا لتبرير التطبيع، بل لإعادة قراءة موقع سوريا في الإقليم. فالموقف العدائي من إسرائيل لم يكن مجرد موقف أخلاقي، بل كان جزءاً من تصور لدور إقليمي وهوية قومية. أما الآن، وبعد أن أُضعفت الدولة، وتمزق النسيج الاجتماعي، فإن هذا الدور ذاته أصبح موضع تساؤل: هل نملك رفاهية أن نكون “دولة محور”؟ أم علينا أولاً أن نكون دولة فاعلة داخل حدودنا، قادرة على البقاء أساساً؟

من جهة أخرى، يجب الاعتراف بأن إسرائيل ليست طرفاً خيرياً في هذا السياق. فهي قوة احتلال، ولا تزال تحتل الجولان، وتستغل ضعف سوريا لتعزيز تفوقها. لهذا، فإن أي علاقة معها، إن حدثت، يجب ألا تكون استسلاماً، بل تفاوضاً بأقصى ما يمكن من شروط، حتى لو كانت الأدوات ضعيفة.

قال نزار قباني أيضاً في قصيدة هوامش على دفتر النكسة:

“إذا خسرنا الحرب، لا غرابة

لأننا ندخلها… بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة

لأننا ندخلها.. بمنطق الطبل والربابة.”

ربما حان الوقت لأن ندخل مفاوضات، لا بخطابات جوفاء، بل بواقعية من يعرف حجمه وظرفه، ويحاول أن يخرج من الحفرة بأقل الخسائر. ليس ذلك نصراً، لكنه ليس خيانة بالضرورة.

يبقى السؤال قائماً: ما الذي نريده من إسرائيل؟ وما الذي نريده من أنفسنا؟ وهل نستطيع أن نتفاوض دون أن نتنازل، أو نتصالح دون أن ننسى؟

هذه لحظة فارقة، والقرارات التي تُتخذ اليوم سترسم شكل سوريا لعقود مقبلة. فإما أن نعيد بناء دولة تعرف كيف تحمي نفسها بالسياسة لا بالسلاح فقط، أو نستمر في الدوران في دائرة العزلة والشعارات… إلى ما لا نهاية.

وبرغم برودة السياسة، وتغيّر لغة المصالح، تبقى فلسطين في وجدان السوريين جرحاً لا يندمل، وذاكرة لا تموت. وكيف ننسى فلسطين، وغزة التي تذبح أمام أعيننا منذ أكثر من عام ونصف؟ كل مشاهد الدم، والحصار، والدمار المتكرر، تحفر عميقاً في الوعي الإنساني، وتمنع أي مصالحة داخلية مع فكرة “التطبيع العاطفي” مهما فُرض علينا سياسياً.