في تلك اللحظة التي تهتزّ فيها طهران على وقع القنابل، لا تُقاس الكارثة بمدى الدمار، لكنها تُقاسُ بما سيليه من اختيارات وجودية. فإسرائيل، إن هي أقدمت على ضربة شاملة لمواقع التخصيب الإيراني، قد لا تكتفي بقنابل تقليدية تستنزف الخرسانة وتبعثر الأجهزة، فقدْ تمضي نحو خيار مزلزل: استخدام سلاح نووي تكتيكي محدود لتأمين عدم إمكانية استعادة القدرة النووية، بفعل الإشعاعات التي تلوّث المكان قرونًا. سيكون ذلك تحوّلاً خطيرًا في قواعد الاشتباك النووي على مستوى العالم، لكنه في ذهن صنّاع القرار الإسرائيلي، قد يبدو “مبررًا استباقيًا” في معادلة أمنية يرون فيها أن “إيران غير النووية” ثمن يجب حسمه، مهما ارتفع. لكن المشهد الأخطر لا يكمن في الضربة ذاتها، بل في إجابة السؤال التالي: كيف سترد إيران؟
هل تنظر طهران إلى مرآة أنور السادات، الذي بعد حرب 1973 أدرك حدود القوة العربية في ميزان الحرب، فانتقل إلى معاهدة سلام مع تل أبيب، مقابل استعادة السيادة الشكلية على سيناء؟ أم تنظر إلى ظلال صدام حسين، الذي ظن أن بوسعه تحدّي المنظومة الدولية بعد ضربة إسرائيلية لمفاعله النووي (تموز 1981)، ليجد نفسه لاحقًا محاصرًا، ثم مدمّرًا، ثم مشنوقًا تحت الاحتلال الأميركي؟
بين هذين المسارين، تقف إيران على حافة القرار التاريخي. خيار السادات يعني القبول بمنطق الانسحاب التكتيكي مقابل الحفاظ على الدولة، الانخراط في توازنات جديدة، وربما الدخول في حلف غير معلن مع قوى كانت بالأمس أعداءً. أما خيار صدام، فهو ردّ عنيف، إقليمي الطابع، يجرّ المنطقة إلى صراع واسع يُنهك الخصم، لكنه قد يُنهي الدولة ذاتها.
السياق مختلف، والزمان غير الزمان. فالسادات تحرّك في ظل معسكرين، وكان ضوء واشنطن بوصلة صفقته. وصدام ظن أنه قادر على ابتلاع التحديات بشعار “التوازن الإستراتيجي”، فابتلع بلاده نفسها. أما إيران اليوم، فهي ليست بمعزل عن التحولات الدولية الكبرى: تحوّل النظام العالمي إلى شبكات متقاطعة بلا مركز ثابت، ضمن هذا المشهد، قد لا تُساق إيران بسهولة إلى تسوية على نمط “كامب ديفيد”، ولا إلى مغامرة على نمط “أم المعارك”، لكن الاحتمالين يلوحان كأطياف في غرفة القرار.
إذا استخدمت إسرائيل النووي التكتيكي فعلًا، فذلك سيصنع قوسًا جديدًا من الردع بالإشعاع، وستكون الضربة أكثر من عملية عسكرية: ستكون بيانًا استراتيجيًا مفاده أن زمن “التهديد بالعتبة النووية” قد انتهى. عندها ستجد إيران نفسها أمام ثلاث بوابات:
بوابة السادات: اعتراف بالخسارة الإستراتيجية، وتطبيع ما، ولو من وراء ستار.
بوابة صدّام: الغرق في رد فعل رمزي دموي، يفتح باب الانهيار الكامل.
بوابة ثالثة رمادية مُستَهلَكة: إعادة صياغة دورها كقوة مقاومة ضمن حدود جديدة، عبر وكلائها وأذرعها، دون مواجهة مباشرة.
الضربة، إن حدثت، لن تغيّر فقط إيران، بل ستُعيد رسم خريطة الردع في العالم، وتضع النظام الدولي أمام اختبار:
هل سيبقى السلاح النووي حكرًا على التهديد؟ أم سيُستخدم فعلًا، ولو مرة واحدة، ليُقال بعدها للعالم: من يقترب من “العتبة”، يُباد من الباب؟
في هذا الزمن المترنّح بين الرماد والضوء، ستُكتب صفحات الشرق الأوسط القادمة بمداد لا يغسله التاريخ، بل يؤرّقه.
