كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما نصرالله منذ اغتيال شكر ثمّ الخطاب الثالث بعدما تعرّض الحزب لضربة استباقية ضخمة وهو يهمّ بضرب أهداف في إسرائيل، استنزفت الكثير من صورته وتوازن عبارته في أذهان جمهوره وأبعد.
يشعر الجنوبيون أوّلاً وقبل غيرهم، أنّ الحزب لا يمتلك تصوّراً واضحاً لليوم التالي لانتهاء الحرب.
الأخطر أنّه ليس بحوزته استراتيجية واضحة في حال تطوّر الصراع الدائر إلى ما هو أبعد كما تهدّد إسرائيل. يترك هذا النقص في الرؤية المستقبلية الحزب مكشوفاً، أمام فقدانه القدرة على التحكّم في السردية التي طالما أتقنها، وأمام النزيف العسكري المتزايد. فبحسب مركز “ألما” الإسرائيلي لبحوث الأمن المعمّقة، فقد الحزب نحو 40 قيادياً ميدانياً رئيسياً منذ بداية الحرب، بينهم معظم قادة الوحدات، بالإضافة إلى أكثر من 400 مقاتل معظمهم من الوحدة المسؤولة عن جبهة جنوب لبنان، وفرقة العمليات الخاصة المعروفة بـ”كتيبة الرضوان”.
أزمة الشّرعيّة أمام بيئته
الحرب التي يجد الحزب نفسه في خضمّها، وضعته أمام معضلات غير مسبوقة، إذ بات من الصعب تبرير انخراطه فيها أمام اللبنانيين، حتى وإن كان لا يهمّه رأيهم بالفعل. فحجّة الإسناد والتخفيف عن الفلسطينيين عبر إشغال جزء من الجيش الاسرائيلي سرعان ما تداعت أمام هول الموت والدمار الذي تواجهه غزة. أثبتت إسرائيل أنّها قادرة على ضرب غزة ولبنان والعراق واليمن وسوريا وإيران في الوقت نفسه. وإذا انتهى الصراع من دون تحقيق مكاسب واضحة بالنسبة لأمن الجنوب، وتكشَّف هول الدمار الذي تعرّضت له البيوت والممتلكات والحقول والبنى التحتية فيه، ستواجه شرعيّته تساؤلات جدّية بين جمهوره قبل الآخرين.
يعرف الحزب أنّ كلّ سرديّته على المحكّ، في الداخل والخارج، وأنّ الصراع الحالي يهدّد بتفكيكها، من خلال تحوّله إلى قوّة مدمّرة للبنان بدلاً من الادّعاءات السابقة أنّه قوّة ردع وحماية. حتى “الانتصارات” المختلف عليها وعلى أثمانها بين اللبنانيين، شكّلت لفترة خلت سنداً لسرديّة “المقاومة” لارتباطها بشبه نتائج ملموسة، مثل انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000، أو “الصمود” في وجه إسرائيل عام 2006.
لا شيء من ذلك موعود الآن، والنتيجة الوحيدة المرشّحة للتبلور هي المزيد من معاناة اللبنانيين.
انكشاف الادّعاءات الجوفاء
أمّا المشكلة الكبرى فهي في احتمال تطوّر الصراع وتوسّع الحرب، لا سيما في ضوء انكشاف الادّعاءات الجوفاء عن وحدة الساحات، وفيلق القدس، وتقزّم قدرات الحزب العسكرية، بالمقارنة مع التفوّق العسكري الإسرائيلي والتكنولوجي الحاسم الذي ظهر في هذه الحرب. يدرك الحزب تماماً هذه المخاطر، ويتجنّب بكلّ ما أوتي من حيلة توسّع النزاع نحو مواجهة أكبر مع إسرائيل.
كما أنّ عدم قدرته على تقديم استراتيجية واضحة في هذا الصراع باتت تمتحن مصداقيته داخل التحالف الأوسع، على نحو يضعف قدرته على التأثير في الديناميّات الإقليمية، وتفوّقه على أقرانه في المحور، خاصة إذا واصل اللاعبون الإقليميون الآخرون، مثل حماس، السيطرة على مجريات الصراع.
وعليه، بين تمنّي انتهاء الحرب في غزة ولبنان، وبين احتمال توسّعها إلى حرب أوسع وأشمل، يسير الحزب بين الألغام بانتظار تغيّر الديناميّات الإقليمية، بما يتيح له تجنّب اتّخاذ إجراءات جذرية، والحفاظ على قدراته العسكرية في الوقت نفسه.
عبر هذا السلوك يغامر الحزب بسمعته بين اللبنانيين، الذين يكبّدهم خسائر مهولة في حرب من دون رؤية. ويغامر بمكانته ضمن المحور، نتيجة افتضاح ادّعاءاته العسكرية. لكنّ الأهمّ أنّ أولويّات الحزب، ونتيجة سلوكه في هذه الحرب، باتت مكشوفة تماماً وعرضة للفحص العلني، وهي أنّ وظيفته تظلّ أوّلاً وأخيراً الحفاظ على نفسه للدفاع عن إيران حين يضطرّ إلى ذلك. بات الجميع يدرك أنّ إيران مهتمّة بعدم دفع الحزب إلى حدود بعيدة، ما دامت مصالحها المباشرة لم تتهدّد بعد، لا سيما أنّها لا تزال قادرة عبر وكلائها على إدارة انخراطها في عدّة صراعات في الشرق الأوسط.
ليس خافياً أنّ إيران هي الراعي الأساسي له من خلال ما وفّرته من دعم ماليّ وعسكري ولوجستي ورعاية استراتيجية لسنوات طويلة، وهو ما جعل الحزب جزءاً رئيسياً من استراتيجية طهران الإقليمية الأوسع. وإذ ظلّ الحزب على الدوام قادراً على مراعاة التوازن بين هذا الدعم وبين الاعتبارات الداخلية اللبنانية، إلّا أنّه بات يفتقر إلى اللياقة اللازمة لهذه المناورة.
يواجه الحزب إحدى أكبر الأزمات في تاريخه. فهو يتعامل مع شبكة معقّدة من الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية التي تمتحن هويّته، من حيث هو أداة إيرانية للدفاع عن ايران أو فاعل إقليمي ضمن ما يسمّى محور المقاومة تتجاوز قضيّته مصالح إيران المباشرة، أو مقاومة وطنية وحزب سياسي كبير داخل لبنان. لم تفرض على الحزب قبلاً مثل هذه الحزمة من الضغوط المتزامنة. ولم يجد نفسه معرّضاً للمساءلة من مواطنيه وحلفائه على حدّ سواء كما هو معرّض الآن.
مع استمرار الحرب، من المرجّح أن يصبح موقف الحزب الهشّ أكثر وضوحاً، وهو ما يهدّد بتقويض أسس قوّته ونفوذه ويغري إسرائيل باستعجال الحرب عليه مستفيدةً من افتضاح ضعفه الاستراتيجي الذي ظلّ لسنوات طيّ الكتمان.