(١)
«ما مصير عقيدة الناتو الواحد
للكل والكل للواحد»؛
يجب التوقف كثيرًا عند الموقف الأمريكى حيال شريكتها التاريخية أوروبا. فما يحدث بينهما يتجاوز الخلاف فى وجهات النظر إلى ما هو أكثر بكثير. إذ يصفه بعض المحللين بأنه يصل على حد «الشرخ». إذ أن كل ما هدد به ترامب فى عهده الأول من ضرورة تخفف الولايات المتحدة الأمريكية من مسؤولياتها المالية التى تدعم بها حلف شمال الأطلسى من جهة، وأن يقوم الطرف الأوروبى منفردا بتدبر متطلبات الأمن التى تتعلق بالقارة الأوروبية من جهة أخرى، قد بات قيد التنفيذ عمليا فى أقل من شهرين من انطلاقة العهد الثانى من «الزمن الترامبى». ولعل الخلاف بين الرؤية الأمريكية والرؤية الأوروبية فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية يشير بجلاء إلى حقيقة أن هناك شرخا بالفعل قد طال الحلف التاريخى الغربى الأطلسى: الأمريكى الأوروبى الغربى NATO؛ الذى تأسس فى إبريل سنة ١٩٤٩ ليكون أداة عسكرية تدافع عن المنظومة الرأسمالية الغربية ضد «المد الشيوعى» للاتحاد السوفيتى فى أوروبا أولا، فالعالم، وفق ما عرف فى الأدبيات: «بمبدأ ترومان» (نسبة للرئيس الأمريكى الـ٣٣ هارى ترومان فى الفترة من ١٩٤٥ إلى ١٩٥٣). والسؤال المحورى الذى شغل السياسيين والباحثين والاستراتيجيين والأمنيين هو: ما مستقبل الحلف وقد بات الشرخ حقيقة؟ وأثر هذا الشرخ على القارة الأوروبية؟ كذلك أثره على النظام العالمى فى ظل الصعود المتنامى لأقطاب دولية جديدة ومزاحمتها للحلف الغربى الأطلسى صدارة المسرح العالمى؟؛ باختصار ما مدى صمود العقيدة التاريخية للحلف الغربى الأطلسى: «الواحد للكل والكل للواحد» الذى ورد فى وثيقته التأسيسية؟
(٢)
«لماذا حدث الشرخ؟»؛
قبل الإجابة التى سوف تحدد ــ ليس فقط ــ مصير الحلف الغربى الأطلسى، بل العالم. لابد لنا أن نشير إلى أنه قبل سنتين وبمناسبة الاحتفال باليوبيل الماسى «للناتو»؛ أطلق الحلف وثيقة بعنوان: «المفهوم الاستراتيجى Strategic Concept؛ تضمنت نصوصا حول: أهداف الحلف الاستراتيجية، وهيكلته، وخططه المستقبلية فى شتى المناطق الحيوية فى العالم. وعُدت الوثيقة آنذاك محاولة لتجديد دور الحلف وتنشيطه بعد الكثير من الانتقادات التى وجهت له خاصة بعد انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية فى مطلع سنة ٢٠٢٢. وتزامن مع صدور هذه الوثيقة استنفار فى كل دول الغرب الأوروبية خاصة فرنسا وألمانيا التى أطلقت ما يعرف «استراتيجية الأمن القومى الألمانى»(يمكن مراجعة مقالاتنا المعنونة: «الناتو: من الانقسام الكبير إلى الفرز الجديد» ـ ١٢/يوليو/٢٠٢٣، وقراءة فى الأمن القومى الألماني» ـ ١٩/٧/٢٠٢٣، و«ماسية الناتو والصراع فى الشرق الأوسط» ـ٧/٨/٢٠٢٤). وعكس كل ما سبق شعورًا بالإحساس بالأزمة. تلك الأزمة التى أفصح عنها بكل وضوح الدبلوماسى المخضرم «فولفانج إيشنجر»، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، فى مفتتح أعمال المؤتمر سنة ٢٠٢١ والتى عبر فيها عن: «عجز الغرب كنموذج كوكبى لأن يقوم بدوره العالمى والحضارى»، وإشارته إلى ما خلصت إليه النخبة الأوروبية فى سنة ٢٠١٩ من تراجع وعجز (وربما تلاشى) الدور الغربى ــ الأوروبى؛ أو ما عبر عنه رئيس المؤتمر، لاحقا، فى لقاء٢٠٢٠، بكلمة مبتكرة ومركبة هى: «Westlessness»؛ أو العجز الغربى. فى هذا السياق الذى حمل مراجعة ذاتية صريحة للقدرة الأطلسية الغربية عموما والأوروبية خصوصا. ساد فى أوساط النخبة الأوروبية السياسية والأمنية الأوروبية نقدا للإخفاق الغربى التاريخى لأضخم كارثتين لحقتا بالعالم منذ الحرب العالمية الثانية هما: المالية المتفاقمة منذ ٢٠٠٨، والفيروسية؛ ما جسد ــ حرفيا ــ لدى الكثيرين فى شتى أنحاء الكوكب بأن «تراجعًا تاريخيًا» قد لحق بالغرب. وزاد من هذا الإحساس النقد اللافت لما وصفته النخبة الأوروبية «بالتطورات المؤسفة التى جرت فى الولايات المتحدة الأمريكية عقب عدم اعتراف الرئيس الأمريكى السابق (ترامب) بنتائج الانتخابات وكانت ذروة هذه التطورات اقتحام مبنى «الكابيتول» بما يمثل من قيمة رمزية ومثل تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية الليبرالية. ويبدو أن هذا الموقف الأوروبى حيال ترامب قد دفعه ألا يكتفى بالدعوة إلى تخفيض المساهمة الأمريكية فى نفقات الحلف فقط، وإنما إلى الانسحاب منه. وعليه دعا ترامب صراحة الأوروبيين ــ وهنا تكمن الإجابة على ما أثير من تساؤلات ــ بضرورة تولى أمنهم بأنفسهم.
(٣)
«إعادة صياغة حلف الأطلسى أوروبيا»؛
وبالنتيجة، يقدر المراقبون بأن مسألة الانسحاب الأمريكى من عضوية الحلف الغربى الأطلسى لم تعد ذات أهمية. إذ أن السلوك الترامبى ــ عمليا ــ قد أدى، حسب أحد السفراء الذين مثلوا الولايات المتحدة الأمريكية لدى «الناتو»، إلى «تقويض الحلف» بصورته التاريخية. ما دفع أوروبا الغربية بقيادة فرنسا وألمانيا إلى التعاطى مع واقع ينحو نحو فك الارتباط التاريخى بينها وبين أمريكا أو ما وصفته مجلة الجارديان الأسبوعية: نحو نقض العهد Into the Breach؛ ومن ثم إعادة صياغة الحلف «أوروبيا»: عسكريا وأمنيا تحت شعار remilitarization of Europe. ويقدر الخبراء أن تستغرق عملية إعادة الصياغة ــ حتى لو وفرت الدول الأوروبية الموارد المطلوبة دون الدعم الأمريكى ــ ليس أقل من نصف عقد من الزمان. وعليه وتبقى الأسئلة الحقيقية فى حاجة إلى إجابة، وأقصد بها ماذا عن مصير القوة النووية الأمريكية الموجودة فى أوروبا من خلال الحلف؟ وما تداعيات ليس فقط، الانسحاب الفورى الأمريكى على الجميع، بل وبدء الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ مسار أمنى مغاير؟ وأى نظام عالمى سنشهد؟.
*نقلاً عن “المصري اليوم”