مثقفون حربائيون: وجوهٌ تطردها المجتمعات قبل أن تفضحها الحقيقة:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

عرفت المجتمعات العربية، عبر مسار تاريخي طويل، أشكالاً متعددة من النفاق الثقافي والسياسي، ارتبط أغلبها بطبيعة الفلسفة السياسية التي يتبناها الحاكم، وبالأساليب التي تُدار بها شؤون الناس، وبالوسائل التي تعتمدها الأنظمة في تأبيد سلطتها. وفي ظل هذه البنية، تبلورت ثلاث فئات رئيسة من المثقفين:

1. المثقف المسالم: الذي يرى في السلطة مصدر إزعاج وتهديد، فيلوذ بالصمت ويبتعد عن الاحتكاك بها اتقاءً للأذى.
2. المثقف المعارض: الذي يقف في مواجهة السلطة، ناقداً سياساتها، كاشفاً عيوبها، مطالباً بحقوقه وحقوق الناس.
3. المثقف المنافق: أخطرهم جميعاً؛ فهو الذي يُظهر للحاكم ما لا يبطن، ويبالغ في التمجيد والتقريظ حتى يجعل من الطاغية كائناً كاريزمياً لا يُسأل عمّا يفعل، ولا تُردّ له رغبة.
هذا الصنف الأخير بات الأكثر حضوراً في المشهد العربي؛ يتصدر الشاشات والمنابر، ويحوّل الخطاب العام إلى مرآة مشوّهة تعكس رغبات السلطة لا حاجات الشعب. هو مثقفٌ يتقن ارتداء الأقنعة، ويتنقل بين الولاءات حيث تميل رياح النفوذ والمال، لا يستقر على مبدأ، ولا يحفظ قيمة، ولا يتورع عن بيع قلمه وكرامته بثمنٍ بخس.
ولعلّ أخطر ما في هؤلاء أنهم يظهرون في لحظات الأزمات؛ حين تحتاج الأوطان لمواقف حاسمة، فيلجأون إلى المنطقة الرمادية التي اعتادوها، ثم ينحازون لمن يدفع أكثر، متخلّين بذلك عن شرف الكلمة وعن دورهم الأخلاقي والوطني.
إن مواجهة هذه الحربائية الفكرية لا تتم إلا عبر تفكيك الأقنعة التي يحتمي خلفها هؤلاء، وإشاعة مناخ من الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير، وتشجيع الناس على الإفصاح عن قناعاتهم دون خوف أو ملاحقة. فلا سبيل للقضاء على النفاق إلا ببناء دولة المواطنة ومؤسساتها الراسخة التي تكفل العدالة والمساواة وحق الاختلاف، وتدعم ثقافة الاعتراف بالآخر واحترام إنسانيته.
كما يتطلب الأمر مراجعة جادة للمناهج التربوية والثقافية التي خلقت فجوة واسعة بين ما نفكر وما نقول وما نفعل، لتنشأ أجيال قادرة على ممارسة النقد لا تزييف الوعي.
لسنا نطلب من كل مثقف أن يكون بطلاً يواجه الاستبداد جهاراً؛ فثمة ظروف قد تجبر بعضهم على الصمت اتقاءً للبطش. لكن ما لا يمكن قبوله هو أن يتحول المثقف إلى أداة بيد الطغاة، أو إلى عينٍ تراقب الناس لحساب السلطة، أو لسانٍ يمجّد الظلم ويبرر القمع.
فالمثقف الذي يتطوع لخدمة الاستبداد لا يخون رسالته فحسب، بل يخون شعبه، ويخون ذاته، ويفقد كل شرعية أخلاقية أو فكرية. وإذا لم يستطع أن يكون صوتاً للحق، فليكن صامتاً على الأقل، لا منبطحاً أمام سلطانٍ جائر.
وهكذا يبقى المثقف الحقيقي، مهما اشتدت العواصف، وفياً لكلمته، منتمياً إلى ضمير الناس، لا إلى عرش الحاكم؛ فالأوطان لا تُبنى بالأقلام المنحنية، بل بالأصوات التي ترفض أن تكون صدى لغير الحقيقة.