في 13 آذار/مارس المنصرم، وقع الرئيس السوري أحمد الشرع الإعلان الدستوري المؤقت الذي يفترض أن يحكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية، والتي تمتد لخمس سنوات. الإعلان، الذي جاء بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أعاد فتح الجدل القديم- الجديد حول دور مجلس الشعب، وما إذا كان من الممكن فعلاً أن يعود هذا المجلس إلى أداء وظيفته الطبيعية كمؤسسة تشريعية تمثل الإرادة الشعبية السورية، أم أنه سيظل مجرد امتداد لسلطة رئيس الجمهورية؟
وقد جاء إعلان تشكيل لجنة للإشراف على انتخابات مجلس الشعب في 13 حزيران/يونيو الجاري، استناداً إلى المادة المتعلقة بالسلطة التشريعية في الإعلان الدستوري، ليعيد تسليط الضوء على هذا الملف الحساس. فوفقاً للنص، فإن رئيس الجمهورية سيقوم بتعيين ثلث أعضاء المجلس، بينما يتم اختيار الثلثين الآخرين عبر لجنة مستقلة معينة من قبله. وعلى الرغم من أن الخطوة تم تقديمها على أنها محاولة لسد الفراغ الدستوري والتشريعي في مرحلة انتقالية مضطربة، إلا أن هذا الترتيب أثار قلقاً واسعاً لدى شريحة كبيرة من السوريين الذين عانوا لعقود من هيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسة التشريعية.
ليس خافياً أن فقدان الثقة بمجلس الشعب السوري ليس طارئاً، بل متجذرٌ في الذاكرة السياسية السورية منذ وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في عام 1963. منذ ذلك التاريخ، بدأ المجلس يفقد تدريجياً استقلاليته ودوره الرقابي والتشريعي، ليتحول إلى هيئة شكلية تعرف شعبياً باسم “مجلس التصفيق”، في إشارة إلى الدور الذي اقتصر على تمرير قرارات السلطة التنفيذية دون نقاش أو معارضة حقيقية.
وقد بلغ هذا الانحدار ذروته في عام 2000، حين ارتكب المجلس ما يصفه كثير من السوريين بـ”العار الدستوري”، وذلك عندما عدل المادة المتعلقة بعمر رئيس الجمهورية خلال أقل من نصف ساعة، لتخفيض السن القانونية من 40 إلى 34 عاماً، بما يسمح بتولية بشار الأسد الحكم بعد وفاة والده حافظ الأسد. كان ذلك المشهد لحظة مفصلية في تاريخ السوريين لعلاقة مجلس الشعب بالسلطة، حيث بدا المجلس وكأنه ختم مطاطي لا يحمل من صفات البرلمان إلا الاسم.
ولكن ما يزيد الألم هو المقارنة بالتاريخ النيابي الحقيقي لسوريا قبل حكم البعث. فقد كان المجلس، الذي كان يعرف آنذاك باسم “المجلس النيابي”، منصة حقيقية لممارسة الديمقراطية البرلمانية في واحدة من أوائل التجارب الدستورية في العالم العربي. وقد ضم هذا المجلس نخبة من رجالات الدولة السورية المعروفين بنزاهتهم ووطنيتهم وثقافتهم، من أمثال شكري بك القوتلي، وهاشم بك الأتاسي، وفارس بك الخوري، وخالد بك العظم، وغيرهم من الشخصيات الوطنية التي أسهمت في صياغة القرار الوطني ووضعت مصلحة الشعب فوق كل اعتبار.
قبل وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، كان المجلس النيابي السوري يلعب دوراً فاعلاً وحقيقياً في الحياة السياسية الوطنية، حيث كان منبراً لمساءلة السلطة ومحاسبتها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، تحقيق المجلس في منتصف خمسينيات القرن الماضي بشأن صفقة السلاح التشيكي التي شابتها شبهات فساد، حيث تم استجواب وزراء ومسؤولين وأدى التحقيق إلى تغييرات حكومية فعلية. كما يذكر أن المجلس لم يتوانَ عن مساءلة حتى أعلى سلطة في البلاد، ففي عام 1949 طالب النواب باستجواب رئيس الجمهورية شكري القوتلي رحمه الله، بسبب تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية. هاتان الحادثتان – والأمثلة كثيرة- تعكسان حقيقة أن البرلمان كان آنذاك سلطة رقابية حقيقية، ولم يكن مجرد هيئة شكلية أو “مجلس أرجوزات”، كما هو الحال لاحقاً تحت حكم البعث.
خلال تلك الحقبة، لعب البرلمان دوراً جوهرياً في الحياة السياسية السورية. فقد شهد نقاشات دستورية واقتصادية مهمة، وأقر قوانين جوهرية في مجالات الإصلاح الزراعي والتعليم والاقتصاد الوطني. كما مارس رقابة حقيقية على الحكومات، واستطاع أن يُسقط وزارات ويفتح تحقيقات، ويعكس بالفعل إرادة الشعب الذي اختار ممثليه بحرية نسبية في فترات متعددة من التاريخ الحديث.
لكن كل ذلك تبدد بعد عام 1973، حين تم تغيير تسمية البرلمان رسمياً إلى “مجلس الشعب” بموجب الدستور الجديد الذي كرس القيادة المطلقة لحزب البعث وكرس بنية الدولة الشمولية. تحول المجلس تدريجياً إلى أداة بيد السلطة، وابتعد عن أي دور حقيقي في التشريع أو الرقابة. وبدلاً من أن يكون منبراً للنقاش، صار مكاناً للتصفيق الحار والهتافات في كل مناسبة، خصوصاً خلال الخطابات الرئاسية أو جلسات “التجديد” للرئاسة.
اليوم، ومع دخول سوريا مرحلة جديدة ما بعد سقوط نظام الأسد، تعود الأسئلة الملحة: هل سيكون مجلس الشعب القادم بداية جديدة لإعادة التوازن بين السلطات في الدولة؟ أم أننا أمام إعادة إنتاج شكلية لمؤسسة فقدت مصداقيتها؟ وهل تعيين ثلث أعضائه، بل وتحديد طريقة اختيار البقية من خلال لجنة معينة، هو حقاً مسار ديمقراطي، أم التفاف على جوهر التمثيل الشعبي؟
لا شك أن المرحلة الانتقالية تتطلب ترتيبات خاصة لضمان الاستقرار وتفادي الفوضى. غير أن أي ترتيبات دستورية، لا سيما تلك المتعلقة بالسلطة التشريعية، يجب أن تبنى على أساس الثقة، والشفافية، والتعددية الحقيقية. إن الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً من دمه، وخسر خمسين عاماً من عمره الوطني، يستحق أن يرى مجلساً يمثله حقاً، لا أن يفرض عليه من جديد تحت مسميات مؤقتة أو تسويات سياسية.
ختاماً، فإن الاختبار الحقيقي للسلطة الانتقالية لا يكمن فقط في إصدار إعلان دستوري أو تشكيل لجان، بل في مدى التزامها الجدي بإعادة الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي، حيث يكون مجلس الشعب سلطة لا واجهة، ومنبراً للمحاسبة لا مجرد صدى لصوت الرئيس.
عن – العربي القديم