محاولات إحياء “داعش” في البادية السورية: العوامل والأسباب

جو غانم
كاتب سوري

يعدّ النشاط المتزايد لتنظيم “داعش” الإرهابي في البادية السورية واحداً من التحديات المهمة التي تواجهها الدولة والجيش والمواطن في سوريا، وخصوصاً بعد عملية “الإنعاش” التي تعرض لها التنظيم منذ أواسط العام الماضي، ثم تلقيه جرعات إضافية واضحة ومؤثرة منذ بداية هذا العام، أي في زمن معركة “طوفان الأقصى”، التي أتت كواحدة من أبرز أساليب المواجهة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية، بالتنسيق والتعاضد مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، ضد قوى محور المقاومة التي انخرطت في معركة إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة، لإشغالها عن نصرة الشعب الفلسطيني، ولتخفيف الضغط الذي راح يتزايد يوماً بعد يوم عن قواعد الاحتلال الأميركي في الشرق السوري والعراق.

والمتابع لسير حركة ونشاط التنظيم الإرهابي في البادية السورية، يلحظ ازدياد عدد تلك الاعتداءات والهجومات منذ بداية هذا العام، إذ تجاوزت عمليات التنظيم 150 هجوماً خلال الأشهر الأربعة الفائتة (منها ما يقارب 70 عملية خلال شهر آذار/مارس وحده)، وهو ما يتجاوز عدد الهجومات خلال الفترة ما بين العام 2021 ومطلع العام 2023 .

وقد تنوعت أساليب التنظيم في هجماته تلك بين نصب الكمائن التي تقوم بها مجموعات صغيرة تتمركز على جانبي أحد الطرق الواصلة بين الداخل والشرق السوريين، واستهداف العربات العسكرية والمدنية العابرة، وهجمات خاطفة على أطراف بعض المواقع العسكرية تحت جنح الظلام أو عن بعد باستخدام القذائف والأسلحة المتوسطة، وهجمات دموية على الرعاة أو المدنيين الباحثين عن أرزاقهم، وخصوصاً خلال حصاد موسم الكمأة التي تشتهر بها البوادي السورية. وتتركز تلك العمليات على وجه الخصوص في بوادي محافظات حمص ودير الزور والرقة وحلب والحسكة.

وإذ يعتمد تنظيم “داعش” الإرهابي في حربه على الدولة السورية أسلوب حرب العصابات في بادية تمتد على مساحة 80 ألف كيلومتر مربع (تتموضع مجموعات التنظيم بشكل ثابت وأساسي ضمن مساحة 4 آلاف كيلومتر من البادية)، فإن الجديد في ما يخص هجمات التنظيم خلال الربع الأول من هذا العام هو اتساع المساحة الجغرافية التي باتت مجموعاته تصل إليها وتستهدفها، فبعدما تركزت تلك الهجمات في السنوات الماضية على نصب الكمائن في عمق البادية، وعلى جوانب الطرقات الرئيسية والفرعية بين تلك المحافظات ومدنها وبلداتها، باتت مجموعات التنظيم تصل إلى القرى القريبة من تلك الطرق، وتنفّذ اعتداءاتها داخل التجمعات السكنية هناك، ومن ذلك على سبيل المثال استهدافها قريتي “الشميطية” في ريف دير الزور و”معدان عتيق” في الريف الجنوبي لمدينة الرقة.

لعل أخطر ما يتعلق بوجود هذا التنظيم وقدرته على تطوير استراتيجياته العدوانية هو الموقع الجغرافي الذي تشغله أو تتنقل فيه مجموعاته المقاتلة، فهي تنتشر في بادية “الكوم” الواقعة شمالي مدينة “تدمر” في الريف الحمصي، ثم في المنطقة الواصلة من “جبل أبو رجمين” الواقع شمال شرقي مدينة تدمر، وصولاً إلى الحدود الإدارية لمحافظة السويداء في الجنوب الشرقي، بلوغاً بادية “البوكمال” في أقصى شرق محافظة دير الزور، مروراً ببادية “السخنة”.

تلك المواقع الاستراتيجية تؤمن للتنظيم ممرات للهجوم في كل الاتجاهات، أي في منطقة واسعة من أرياف دير الزور والرقة وحمص، وجيباً باتجاه المناطق الشرقية من محافظة حلب، وممراً باتجاه مناطق شرقي محافظة إدلب، وهذا يعني القدرة على الوصول إلى معظم الطرقات الرئيسية الواصلة بين تلك الحواضر ونصب الكمائن على جنباتها.

لكن هذا التموضع، على أهميته، ما كان لِيمكن التنظيم من تطوير هجماته وأساليبه وأدواته لولا ضمان عدة عوامل رئيسية ومؤثرة ساعدته بقوة على التصعيد في الأشهر الفائتة، أولها، وأهمها على الإطلاق، وجود قوات الاحتلال الأميركي في قاعدة “التنف” الواقعة في عمق البادية السورية عند مثلث الحدود السورية – العراقية – الأردنية، حيث معسكرات التدريب والإمداد والمخيمات التي تؤوي أعداداً كبيرة من عوائل قيادات التنظيم وعناصره، وحيث نقل أساساً العديد من قيادات التنظيم التي تم أسرها بعد معركة “الباعوز” في العام 2019، وبعد “التمرد المسلح” المشبوه الذي حصل في “سجن غويران” في مدينة الحسكة لاحقاً.

والمعلومات بهذا الخصوص تفيد بأن قيادات تنتمي إلى ما أطلقت عليه قوات الاحتلال الأميركي اسم “جيش سوريا الحرة” هي المسؤولة عن التنسيق بين قاعدة “التنف” وقيادات التنظيم في البادية، وعن تأمين كل ما يلزم من أسلحة ومعدات وأجهزة لوجستية وإيصال معلومات هامة حول المواقع والتحركات العسكرية على الطرق الرئيسية في تلك المناطق. ولعل ظهور أسلحة جديدة بين أيدي عناصر التنظيم في الآونة الأخيرة، ومنها الصواريخ المتوسطة المدى، يشير بوضوح إلى هذا التورط الأميركي الصارخ.

أما العامل الثاني، فيتمثل في خبرة عناصر التنظيم على مدى سنوات في العيش والتنقل في بوادي وصحاري العراق وسوريا، ومعرفتهم بجغرافيتها المعقدة والصعبة التي تؤمن الحركة المموهة والاختباء، ثم تمكنهم، من خلال الإرهاب والترهيب، من بناء شبكة علاقات مع بعض السكان المحليين في تلك المناطق بعد قتل أو تهجير العديد من زعماء وأبناء العشائر الذين رفضوا التعامل مع المجموعات الإرهابية التابعة له.

أما العامل الثالث، فهو قدرة التنظيم على تفعيل شبكات التهريب بين العراق وسوريا من خلال البادية السورية الوسطى المرتبطة بالصحراء الغربية العراقية، وهو الأمر الذي يؤمن، إلى حد كبير، حركة وتنقل المجموعات بين البلدين وتوفير الإسناد والدعم اللوجستي أيضاً.

ورابعاً، تلك العلاقة التي لم تنقطع مع العديد من قيادات المجموعات المسلحة في الشمال السوري (إدلب وريف حلب)، الأمر الذي سمح دائماً بوجود منطقة تحرك واختباء، بل وتمويل، في الشمال المحتل. ولا ننسى هنا أن زعيم تنظيم “داعش” السابق، أبا إبراهيم القرشي، قتل قرب الحدود السورية – التركية في المخبأ الخاص به الواقع ضمن مربع أمني تشغله قوات تركية ومراكز أمنية تابعة لـتنظيم “هيئة تحرير الشام” الإرهابي.

على الرغم من اعتماد مجموعات “داعش” حتى الآن على عمليات الكر والفر، فإنَّ قيادة التنظيم الجديدة تحاول في الأشهر الأخيرة إظهاره بصورة التنظيم العائد بقوة، وذلك من خلال تكثيف العمليات والاعتداءات، وإقامة المعسكرات الجديدة في عمق البادية، والإيحاء بوجود قدرات مالية كبيرة يستخدمها التنظيم في عمليات التجنيد والتدريب.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى محاولات التنظيم مؤخراً الاقتراب أكثر من حقول النفط والغاز، سواء في ريفي دير الزور والحسكة، حيث تسيطر ميليشيا “قسد” المدعومة من قوات الاحتلال الأميركي أو في ريف حمص حيث قوات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة، وهي محاولات تحمل دلائل على وجود خطط للسيطرة على بعض تلك الحقول لتأمين مصادر مالية جديدة، وعدم الاكتفاء بفرض الإتاوات على السكان المحليين والعابرين أو على الشاحنات والصهاريخ المحملة بالوقود.

من جهة أخرى، لم تتوقف العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري باتجاه البادية طوال السنوات الماضية، والحملات العسكرية التي يشارك بها الطيرانان السوري والروسي آخذة بالتوسع والازدياد أيضاً، وغالباً ما تسفر عن مقتل العديد من أفراد التنظيم وتدمير مواقعهم وكهوفهم في عمق البادية.

لكن المؤكد هو أن خطر التنظيم الإرهابي لن يتلاشى قريباً، بل سيبقى، وربما يتزايد، ما دامت عوامل إنعاشه وإمداده قائمة، ويمكن القول إن أولى علامات بدء انهيار التنظيم تمهيداً للقضاء عليه على أيدي قوات الجيش العربي السوري ستكون عند اندحار قوات الاحتلال الأميركي وخروجها من الأرض السورية، لأن واشنطن هي الضامن الأول لحياة واستمرارية هذا التنظيم وغيره من الجماعات الإرهابية أو الانفصالية، بل إن تلك الجماعات هي طليعة “جيش” الولايات المتحدة الأميركية و”نخبته” القتالية والانتحارية التي تضمن احتلالها وبقاءها على أرضنا، وهي لن تتخلى عن هذه الأداة الثمينة إلا بقوة المقاومة والتحرير.

شاهد أيضاً