ليس الرحيل دائماً صمتاً، فثمة أسماءٌ حين تغيب، تترك ضجيجاً من المعنى، وذاكرةً تمشي بيننا ولا تنطفئ. محمد بكري لم يكن عابراً في المشهد، ولا طيفاً على شاشةٍ أو خشبة، بل كان حضورا كاملاً، يجعل من الفن موقفاً، ومن الكلمة مسؤولية. في رحيله، نشعر أن المسرح أظلم قليلاً، وأن السينما فقدت نبضاً كان يشبه فلسطين في صدقه وجرحه.
يرحل الممثل والمخرج الكبير محمد بكري عن عمرٍ ناهز اثنين وسبعين عاماً، بعد مسيرةٍ فنيةٍ وثقافيةٍ وإنسانيةٍ حافلة بالعطاء. مسيرة لم تُقَس بعدد الأعمال وحدها، بل بعمق أثرها، وبشجاعتها في مواجهة الزيف.
كان حضوره مؤثراً في المسرح والسينما، لا لأنه أتقن الدور فحسب، بل لأنه آمن أن الفن ليس ترفاً جمالياً، بل لغةُ شعبٍ يبحث عن صوته.
منذ بداياته، اختار محمد بكري أن يقف في جهة الحقيقة، مدافعاً عن السردية الفلسطينية، في زمنٍ كُتبت فيه الروايات المزوّرة، وحوصرت فيه الذاكرة.
لم يفصل يوماً بين فنه وموقفه، فصار الأداء عنده شهادة، والنص فعل مقاومة.
وحين قرر أن يقول ما يجب أن يُقال، لم يتردّد، حتى وإن كان الثمن ملاحقةً وتحريضاً وعنصريةً من الاحتلال، خاصة بعد فيلمه الوثائقي «جنين جنين»، الذي كان أكثر من عمل سينمائي؛ كان صرخةً في وجه الصمت، ومرآةً لوجعٍ أرادوا له أن يُنسى.
وفي إحدى اللحظات الإنسانية التي تزداد وضوحاً مع الغياب، أستعيد لقائي به على هامش معرض الكتاب في رام الله عام 2023. وبعد ندوة كان فيها متحدثاً أساسياً وبعنوان 🙁 المشهد الفلسطيني وإثراؤه درامياً وسينمائياً ) لم يكن اللقاء طويلًا، لكنه كان مكثّف الدلالة.
تحدّثنا عن المسرح والسينما، فبدت عيناه كمن يعود إلى بيته الأول، وقال بثقة العارف بطريقه: هذا عالمي الحقيقي. أكّد أن هذا العمل، بكل ما يحمله من مشقّة واستهداف، هو مقاومة، مقاومة بالجمال، وبالصوت، وبالصورة التي تفضح ولا تهادن.
كان حديثه هادئاً، لكنه مشبع بإيمانٍ عميق بدور الكلمة، وبقدرة الفن على أن يكون في الصفوف الأولى للدفاع عن الإنسان. وحين انتقل الحديث إلى الكتابة، حثّني على مواصلة هذا الطريق، طريق الحرف المسؤول، مؤكداً أن الكتابة ليست ترفاً فكرياً، بل موقفاً اخلاقياً، وأن الكاتب الحقيقي هو من لا يساوم على وعيه ولا يخون أسئلته. ثم أشاد بطريقة تفكيري، إشادةً صادقة شعرت معها أنني أمام فنان يرى في الآخر امتداداً للرسالة، لا مجرد عابر في لحظة لقاء.
جسّد محمد بكري الفن بوصفه أداة وعي وهوية، ومقاومة ثقافية لا تقل شأناً عن أي شكلٍ آخر من أشكال النضال. بقي ثابتاً على مواقفه رغم القمع والاستهداف، رافضاً الانكسار أو التراجع، حتى صار اسمه قريناً للكرامة الثقافية والشجاعة الأخلاقية.
وفي الختام؛ برحيله، تخسر فلسطين والعالم العربي قامةً فنيةً نادرة، وتخسر الثقافة الملتزمة أحد أنبل أصواتها.
غير أن محمد بكري لم يرحل تماماً؛
بقي في لقطةٍ سينمائيةٍ لم تُطفأ،
وفي خشبة مسرحٍ ما زالت تنتظر صوته،
وفي ذاكرةٍ آمنت بأن الفن حين ينحاز للحقيقة،
يصبح شاهدًا لا يموت.
سلامٌ لروحه، ولتستمر الحكاية.









