السياسي – لم تكن أمنية رئيس وزراء الاحتلال فترة التسعينيات إسحاق رابين، أن يبتلع البحرُ غزة، سابقةً في نظرة قادة الحركة الصهيونية للقطاع، فهي الغاية ذاتها التي دأب قادة الاحتلال على ترديدها منذ قيام “إسرائيل” إثر النكبة عام 1948، وحتى اليوم.
ورأت منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، أن استمرار وجود سكان غزة يمثل عقبة أمام الأطماع التوسعية، وتهديدًا لطابع الدولة اليهودية، ورسموا الخطط وحاكوا المؤامرات لتهجير أهله، لكن كل ذلك سرعان ما تبدد وطوته السنين وحطّمه صمود الغزيين وثباتهم.
عام 1955، طرح أول رئيس وزراء إسرائيلي ديفيد بن غوريون، مشروعًا لضم غزّة، مع فتح ممرين أمام السكان للخروج من القطاع باتجاه مصر والأردن، فما أشبه الليلة بالبارحة!
وعلى منواله نسجت وزيرة الخارجية آنذاك غولدا مائير، حيث تم بالفعل احتلال القطاع أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وأعلنت مائير أنّ القطاع جزء مكمّل لـ “إسرائيل”، التي شنت إبادة للشعب الفلسطيني في غزّة، وإجبار المتبقي منه على المغادرة.
وتظل مجزرة مخيم خانيونس في نوفمبر 1956 علامة على الوحشية الإسرائيلية المستمرة، حيث راح ضحيتها أكثر من 525 فلسطينيا، في محاولة لتحقيق هدف التهجير، لكن فشل العدوان الثلاثي أجبر “إسرائيل” على الانسحاب من القطاع.
وتدل محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية عقب حرب 1967، على تبنّيها مخططات لتهجير السكان الفلسطينيين، وبشكل رئيسي سكان قطاع غزة.
-فكرة التخلص من غزة حاضرة في العقل الإسرائيلي
أستاذ التاريخ في جامعة النجاح الوطنية أمين أبو بكر سلط الضوء على محاولات “إسرائيل” اقتلاع غزة وسكانها، التي باءت دائما بالفشل.
ويعتبر أبو بكر أن فكرة التخلص من قطاع غزة، كانت دائما حاضرة في عقول قادة الاحتلال، لموقعه الجغرافي، ثم لتمركز المقاومة فيه على مدار العصور.
ويعتقد أبو بكر أن إقامة مستوطنة “ياميت” عام 1973، في سيناء، والتي تم تفكيكها بعد عدة سنوات، كانت تمهيدا لمد النفوذ الإسرائيلي إلى الشمال نحو غزة، وكانت رفح في حيته هي الأكثر استهدافا.
ويرى المؤرخ الفلسطيني أن التغيرات الدراماتيكية في مصر فترة الخمسينيات، وما عرف بثورة الضباط الأحرار، وسقوط الملك فاروق، عزز الشعور لدى الإسرائيليين بظهور عدو جديد، وأنه لا بد من السيطرة على قطاع غزة لوقفه وردعه.
-أفكار لتهجير الغزيين بعد عام 1967
وبالكشف عن محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية بداية السبعينيات، فقد طُرحت عدة أفكار بشأن مستقبل قطاع غزة، وكانت الفكرة الأبرز هي “تشجيع” سكان القطاع على الهجرة إلى دول أُخرى، تمهيداً لضمّ القطاع إلى سيادة “إسرائيل” بعد تفريغه من سكانه.
وفي هذا السياق، اقترح رئيس وزراء الاحتلال في حينه ليفي أشكول (1963-1969) تجفيف المياه في القطاع لإحداث أزمة إنسانية، وكذلك تدمير ما تبقّى من قطاع الزراعة المحدود أصلاً، بهدف خلق ظروف قاسية ستدفع قسماً من السكان إلى الهجرة إلى دول أُخرى.
ولتنفيذ مخطط التهجير “الطوعي” أنشأ أشكول بتاريخ 19 / 2 / 1968 وحدة سرية لتشجيع السكان على الهجرة من قطاع غزة، بحيث يُسمح بحرية الحركة والتدفق من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، ثم يتم تهيئة الأمور لتهجيرهم إلى الخارج بواسطة التواصل مع وكالات السفر والحكومات الأجنبية من أجل استيعابهم
أمّا موشيه دايان، وزير الحرب آنذاك، فوضع هدفًا طموحًا لتقليص عدد سكان القطاع من 450,000 إلى 100,000، معتقدًا أنه يمكن التعايش مع هذا العدد.
ويعتقد المؤرخ الفلسطيني أبو بكر أن فكرة التخلص من غزة لا تقل أهمية لدى الاحتلال عن التخلص من القدس، لأن القطاع يقوم في “الخاصرة” من ناحية جغرافية، ويقف عائقًا أمام أي خطط للتمدد نحو مصر.
ويوضح أنه تم احتلال القطاع عام 1956 ثم 1967 بحجة أن المقاومة تنشط من قطاع غزة.
-محاولة شارون اجتثاث جباليا
وتابع “رئيس أركان جيش الاحتلال في حينه اريئيل شارون تذرع بنشاط المقاومة في غزة، وحاول اجتثاث مخيم جباليا، وتقسيم القطاع إلى مربعات للتخلص من البعد السكاني.
ويعتقد أبو بكر أن فشل الخطط الإسرائيلية في السابق، هي التي تحفز قادة الاحتلال على إعادة تجريبها اليوم، للتخلص من القطاع أولا، ولمحو كل ما يتعلق بالنكبة وآمال عودة الفلسطينيين لقراهم المهجرة عام 1948، كون الغالبية العظمى من سكان القطاع هم لاجئون.
-حرب الإبادة وخطط التهجير
وعلى امتداد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، كرر قادة الاحتلال مجدّدًا نوايا التهجير والتخلص من غزة وسكانها، في حين كانت خطة طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معولًا لهم لتحقيق ما عجزوا تاريخيًّا عنه، قبل أن يتراجع ترامب عن ذلك.
وفي 23 مارس/آذار الماضي، أعلنت وزارة الحرب الإسرائيلية، إنشاء إدارة خاصة مهمتها السماح للفلسطينيين بمغادرة قطاع غزة “طوعا”، مشيرة أن المجلس الوزاري الأمني المصغر صادق على خطتها لإنشاء إدارة مخصصة “للمغادرة الطوعية لسكان غزة إلى دولة أخرى”.
وفي 9 أبريل/ نيسان الجاري، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس، أن الجيش يعمل على تقطيع أوصال قطاع غزة وتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين منه.
وكان ترامب قد كشف، مطلع فبراير/شباط الماضي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، عن نية واشنطن فرض سيطرة مباشرة على قطاع غزة بعد تهجير كامل سكانه الفلسطينيين إلى دول أخرى.
-التهجير بتغطية دولية
ويرى الكاتب والمحلل السياسي جهاد حرب، أن فكرة تهجير الفلسطينيين قائمة في الفكر الصهيوني، من خلال إخلاء الأرض وتقليل عدد الفلسطينيين في فلسطين إلى الحد الأدنى.
وقال حرب أن الحركة الصهيونية، قبل قيام “إسرائيل”، كانت ترغب في صدور إعلان دولي لخطوتها بالاستيطان في فلسطين، فتحقق لهم ذلك عبر وعد وزير خارجية بريطانيا آنذاك جيمس بلفور.
وأردف “اليوم يرى قادة الاحتلال في إعلان ترامب فرصة مناسبة وتاريخية للتهجير والتطهير العرقي.
وبين حرب أنه منذ بدء الحرب على غزة؛ لازمت رغبة التهجير المسؤولين الإسرائيليين، إما تحت القوة وتهديد السلاح، أو بمزيد من المعاناة والقتل، أو بتصعيد الضغوطات المعيشية والإجراءات اليومية”.