السياسي – أكد مركز مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط (MERIP) الأمريكي أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تشنّ “حربًا على الإنجاب” في غزة باستهداف ممنهج لمستقبل الفلسطينيين وذلك مع تواصل حرب الإبادة الجماعية على القطاع منذ أكثر من 20 شهرا.
وأبرز المركز أنه في واحدة من أكثر صور الحرب قسوة وتجردًا من الإنسانية، يتكشف بعدٌ جديد من الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة: استهداف القدرة على الإنجاب.
فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تقتصر جرائم الاحتلال على تدمير البنية التحتية وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، بل امتدت لتشمل هدم مستقبل الفلسطينيين من خلال تدمير عيادات الخصوبة، وقتل الأطفال، وتجويع الأمهات، وخلق بيئة سامة تؤدي إلى الإجهاض والعقم والتشوهات الخلقية.
ولفت المركز إلى أنه في ديسمبر 2023، استهدف صاروخ إسرائيلي مركز “البسمة” لأطفال الأنابيب، أكبر عيادة خصوبة في غزة، مدمّرًا أكثر من 4000 جنين محفوظ، وأكثر من 1000 عينة حيوانات منوية وبويضات غير مخصبة.
وعلّق مؤسس العيادة، الدكتور بهاء الدين غلاييني، على الهجوم قائلاً: “5000 روح في قوقعة واحدة”. كان ذلك الهجوم بمثابة ضربة رمزية ومادية لقدرة الغزيين على التكاثر.
-استهداف ممنهج للخصوبة
لا يمكن قراءة هذه الهجمات بمعزل عن سياق الإبادة الجماعية. فوفقًا لتعريف اتفاقية الأمم المتحدة، فإن “فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب” ضمن جماعة معينة يُعد من أركان الإبادة.
دولة الاحتلال التي تدعم وتحفز الإنجاب لدى مواطنيها اليهود، تطبق النقيض تمامًا في تعاملها مع الفلسطينيين.
ليست هذه الممارسات جديدة، فقد ظهرت مؤشرات على عقلية الإقصاء الديمغرافي في حرب غزة 2008–2009، عندما ارتدى جنود إسرائيليون قمصانًا تُظهر امرأة فلسطينية حامل في مرمى بندقية، مكتوب عليها: “طلقة واحدة تقتل”. هذه الثقافة العسكرية تعكس سعيًا واضحًا ليس فقط للقتل، بل لمنع الحياة.
-بيئة لا تسمح بالحياة
منذ بداية العدوان، تجاوز عدد القتلى في غزة 55,000، بينهم أكثر من 17,000 طفل، منهم ما لا يقل عن 2,100 رضيع وطفل صغير. إضافة إلى ذلك، أُبيدت أكثر من 970 عائلة بشكل كامل.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد الأرامل في غزة قد بلغ على الأقل 3,000 امرأة، مع أعداد غير محصاة من الأرامل.
لكن الأرقام لا تعكس سوى جانب من الصورة. فقد وثّقت تقارير حقوقية ارتفاعًا مروّعًا في معدلات الإجهاض بنسبة تصل إلى 300% خلال عام واحد، في ظل انعدام الرعاية الطبية الأساسية، وانهيار الخدمات الصحية، وقصف المستشفيات، ونقص الأدوية، وغياب الحاضنات وحليب الأطفال.
في نوفمبر 2023، قُتل خمسة أطفال خُدّج تُركوا دون رعاية بعد أن أجبر الاحتلال طاقم مستشفى النصر للأطفال على إخلاء المبنى، تاركين الأطفال لمصيرهم. كما جرت مئات الولادات القيصرية دون تخدير، وجرى استئصال أرحام لنساء كان من الممكن إنقاذهن، لكن شُح المواد الطبية جعل ذلك مستحيلاً.
-حمل في الجحيم
بين أكتوبر ونوفمبر 2023، كانت تولد حوالي 180 امرأة يوميًا في غزة، واجهت 15% منهن مضاعفات تهدد حياتهن. وبحلول عام 2024، أصبحت أكثر من 177,000 امرأة حامل مهددة بخطر الموت بسبب الجوع والأمراض وانعدام الرعاية.
الحكايات الفردية تؤكد هذه الكارثة. دانا، سيدة في الرابعة والثلاثين من عمرها، كانت حاملًا بعد محاولات علاج استمرت عشر سنوات.
عند نقطة تفتيش إسرائيلية، أُجبرت على الجلوس القرفصاء مرارًا، ما تسبب في فقدانها للجنين وإصابتها بنزيف استدعى استئصال رحمها لإنقاذ حياتها. دانا، مثل كثيرات، اختفت أخبارها وسط الانقطاع شبه الكامل للتواصل بفعل الحرب.
وفي حادثة أخرى وثّقتها قناة NBC الأميركية، أُجبرت امرأة تُدعى هند شملخ على الخضوع لعملية قيصرية بعد انتشالها من تحت الأنقاض. وُلد طفلها بذراع مكسورة. كما أُجبر طبيب فلسطيني على إجراء عشر عمليات ولادة قيصرية لأمهات فارقن الحياة، في محاولة لإنقاذ أطفالهن.
-ولادة تحت القصف
الحصار الإسرائيلي، مضافًا إلى القصف المستمر، حوّل عملية الولادة إلى تجربة شبه مستحيلة. ولدت نساء في منازلهن تحت القصف، وسط غياب أي مساعدة طبية.
بعض الأزواج تولوا مهمة التوليد بعد أن تعذّر وصول زوجاتهم إلى أي نقطة طبية. بعض النساء قطعن الحبل السري بأدوات منزلية.
أخريات مشين وحيدات لمستشفيات مهددة بالقصف، تاركات أزواجهن خلفهن حتى لا تُفنى العائلة كلها إذا استهدفتهن طائرات الاحتلال.
-البيئة السامة والموت البطيء
أدت الضربات الإسرائيلية إلى تدمير 70% من مباني غزة، بما في ذلك 92% من المساكن، ما أدى إلى خلق بيئة مادية سامة نتيجة لاستخدام الفوسفور الأبيض والذخائر الثقيلة. وبحسب تقارير طبية، فإن واحدًا من كل أربعة مواليد في غزة يتأثر اليوم بتشوهات خلقية أو مضاعفات ولادية.
ويقول الدكتور محمد أبو عفش، مدير الإغاثة الطبية في غزة، إن هذه الظروف تنذر بكارثة صحية للأجيال القادمة.
هذا التدمير الممنهج للبنية التحتية، يصفه الباحث البريطاني ستيفن غراهام بأنه يؤدي إلى “موت بطيء”، حيث لا يُقتل السكان فورًا، بل يُحرَمون من شروط الحياة، بما في ذلك التغذية، والرعاية، والولادة.
ويخلص المركز غلى أنه ما يجري في غزة يتجاوز كونه عدوانًا عسكريًا؛ هو هجوم شامل على فكرة الاستمرارية الفلسطينية، وعلى الأمل ذاته.
إذ عبر استهداف مراكز الخصوبة، وتقييد حركة النساء الحوامل، وحرمانهن من الرعاية، وفرض بيئة قاتلة، تُمارس دولة الاحتلال واحدة من أبشع صور الإبادة: قتل المستقبل قبل أن يُولد.