مستقبل سورية: بين وعي التاريخ وإعادة بناء الهوية:.

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

الحرب الأهلية السورية، التي امتدت لأكثر من عقد، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن تاريخها الاجتماعي والسياسي، أو عن الأبعاد النفسية والثقافية التي حملتها الجماعات المشاركة. يمكن تصنيف هذه الحرب إلى طورين رئيسيين: الطور الأول، الذي تَستر خلفه السوريون بشعارات وطنية، مناهضة للاستبداد، ومن أجل الحرية؛ والطور الثاني، أي المرحلة الحالية، حيث أصبح الصراع واضحاً من دون أي تغطية لغوية أو شعارات زائفة، وأخذ طابعاً طائفياً واضحاً، كما يشير الباحث عايق في مقاله بـ”الجمهورية”، قائلاً: «اليوم نزع السوريون كلّ أردية اللغة الوطنية التي طالما اختبأوا وراءها دون قناعة منهم وصارت الحرب واضحة دون توريات».
التستر خلف شعارات وطنية: قراءة أولية.

في الطور الأول من الحرب، كان كثير من السوريين يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية والوطنية. ولكن السؤال الملح هو: هل كان هذا التستر مجرد وسيلة لتجنب محاسبة المجتمع والدولة، أم أنه كان تعبيراً عن نزوع حقيقي إلى الحرية؟ الواقع يشير إلى أن الشعارات الوطنية غالباً ما كانت تغطي نزعات طائفية واجتماعية عميقة، أي أن الكثير من الجماعات كانت تحمل بداخلها حقداً طائفياً أو مصالح ضيقة، لم تكن واضحة في البداية، لكنها كانت كامنة، تظهر تدريجياً مع تفكك مؤسسات الدولة وضبابية السلطة.
هنا، نجد أن الطور الأول من الحرب يمكن تحليله كمرحلة إخفاء مزدوج: إخفاء العجز الوطني عن بناء دولة حديثة، وإخفاء النزعات الطائفية أو الحقد الشخصي خلف واجهة شعارات الحرية. وهو ما جعل هذه المرحلة معقدة في تحليلها، إذ اختلطت الرغبة الحقيقية بالتحايل على السياق السياسي والاجتماعي.

_ الطور الثاني: وضوح النزعات الطائفية.

مع استمرار الحرب، ومع تراجع الأفق الوطني، ظهرت النزعات الطائفية بشكل جليّ. فقد أصبح كل طرف يعبر عن مصالحه الضيقة دون مواربة، وتقلصت المساحات الرمزية للخطاب الوطني. هذا الانتقال من “الاستتار بالوطنية” إلى الصراع الطائفي المفتوح يمثل مرحلة تحول وجودي واجتماعي في المجتمع السوري، إذ باتت الانقسامات العميقة أكثر وضوحاً وتهديداً لأسس الدولة والمجتمع المدني.
ما هو مطلوب لمستقبل سورية؟
من أجل إعادة بناء سورية بعد كل هذه الانقسامات، لا بد من الالتزام بعدة أسس أساسية:
1. إعادة تأسيس الهوية الوطنية الجامعة:
على السوريين أن يتجاوزوا الانقسامات الطائفية والإثنية، ويبنوا هوية وطنية مبنية على القيم المشتركة: الكرامة، العدالة، والمواطنة. الهوية لا يمكن أن تُفرض شعاراتياً، بل تتطلب مشروعاً ثقافياً واجتماعياً ممتداً.
2. التصالح مع التاريخ والذاكرة الجمعية:
لا يمكن تجاهل ما حدث خلال الحرب. المطلوب مواجهة الحقائق، والاعتراف بالجرائم والانتهاكات، والعمل على صياغة آليات للعدالة والمصالحة، حتى لا تتحول الذاكرة إلى أداة حقد مستمر.
3. نظام سياسي مدني وعادل:
ضرورة بناء مؤسسات دولة قوية وغير طائفية، تضمن حقوق الجميع، وتمنع احتكار السلطة على أساس مذهبي أو عرقي، وتخلق أفقاً للتعددية السياسية الحقيقية.
4. التعليم والثقافة كآليات للتغيير:
التربية الوطنية والتعليم الذي يركز على قيم المواطنة والتعايش بين السوريين سيكونان حجر الزاوية في تحصين المجتمع ضد الانقسامات المستقبلية. الثقافة والفكر الحرّان هما السبيل لإعادة صياغة وعي المواطن السوري.
5. دور المجتمع المدني والإعلام:
يجب أن يصبح الإعلام أداة للتثقيف وإشاعة الحوار، لا أداة للتحريض الطائفي. ويجب دعم المجتمع المدني ليكون جسر التواصل بين السوريين، ويعزز من قدراتهم على المشاركة في صياغة مستقبلهم.
_الخلاصة:
الحرب السورية أظهرت أن الوطنية والشعارات كانت في كثير من الأحيان مجرد غطاء على النزعات الطائفية والمصالح الضيقة. ولكن بناء مستقبل سورية يتطلب استعادة تلك الهوية الوطنية الجامعة، التصالح مع التاريخ، تأسيس مؤسسات عادلة، وتعزيز الثقافة والفكر الحر. فقط من خلال هذا المسار يمكن للسوريين أن يتحرروا من أسر الحقد والانقسام، ويبنوا مجتمعاً قائماً على الحرية، العدالة، والتعددية الحقيقية.