لم تقف صيرورة وسيرورة المناهج النقديّة عند حدود دراسة النص الأدبي وتفسيره اعتماداً على علاقته بالتاريخ أو المجتمع بكل مستوياته فحسب, بل انتقلت للتركيز على العالم الداخلي للنص الأدبي في بنياته اللغويّة والفنيّة والرمزيّة والدلاليّة، والبحث عن العلاقات والقوانين الباطنيّة التي تحكمه.
إن تفسير و توضيح أي نص أدبي شعراً كان أو نثراً، يحتاج الي تفسير وتأويل مستوى دلالات البنيّة الاجتماعيّة من جهة. وكذلك مستوى التلقي, والجمالي, والانفعالي, وغير ذلك. من جهة ثانية.
فعلى المستوى الاجتماعي: لا بد من كشف البنية الاجتماعيّة التي تحيط بالكاتب, وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة القائمة في هذه البنيّة, وما هي أبرز التناقضات والصراعات الاقتصاديّة والاجتماعية (الطبقيّة) والسياسيّة والثقافيّة التي أثرت في الكاتب أو الأديب, وحددت المسار العام للموضوع أو النص الذي اشتغل عليه, وما هي أهدافه. فهناك مسائل تتعلق بمستوى تخلف وتقدم المجتمع من حيث أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. ومن مفردات أو مسائل هذا التخلف أو التقدم, يأتي دور المرأة ومكانتها, وكذلك الأمّيّة, وانتشار الجريمة بكل أنواعها, والانحطاط الأخلاقي كتعاطي المخدرات والدعارة وتذرير المجتمع, وهناك مسألة الهجرة وأسبابها وأشكالها, وكذلك الاستبداد والظلم والقهر والجوع والتشرد, وهناك انتشار الخرافة والأسطورة, وهناك الصراعات الطبقيّة والعرقيّة والدينيّة وتفريعاتها الطائفيّة والمذهبيّة. وغير ذلك من قضايا عالجها الأدباء شعراً ونثرا, إن كان على مجال القصة أو الرواية.
مستويات قراءة وتحليل النص الأدبي:
أولاً- على مستوى البنية الدلاليّة:
إن علم الدلالة يشتغل على دراسة المعنى في اللغة, وكيف تنقل الكلمات والعبارات والجمل المعنى. أي يهتم علم الدلالة بمعنى الكلمات والعبارات والجمل وكيفيّة استخدامها في التواصل بين الأديب والمتلقي.
إن علم الدلالة هو فرع من فروع علم اللغة، وهو مهم لفهم كيفيّة استخدام اللغة والتقنيات الأدبيّة مثل الاستعارة والرمز والصور والانزياح .. الخ, في السياق العام للنص. حيث يشير النص الأدبي إلى الأعمال المكتوبة في الشعر والدراما وأشكال الأدب الأخرى من قصة ورواية ومسرح, وكيف تتم كتابة هذه النصوص أو الموضوعات للتعبير عن الأفكار والعواطف. (1).
إن البنية الدلاليّة تشكل نوعاً من التوليف والتنظيم لبنية النص الأدبي, وهي المقولة التي تخترق أيضاً كيان النص باعتبارها رؤية يصوغها النص بشكل جدلي, أي بشكل يبين تلك العلاقة التي تشير إلى مدى تأثير مكونات بنية النص بعضها ببعض. وهي في المحصلة البنية التي يصادفها الناقد الأدبي فتمنحه بطابعها الشمولي فهما أعمق للخلفيّة الإيديولوجيّة أو الفكريّة المعبرة عن حوامل اجتماعيّة ذات مرجعيات طبقيّة او دينيّة أو عرقيّة أو قوى اجتماعية ذات توجهات محددة فنية كانت أو أدبيّة أو غير ذلك.
بتعبير لآخر: إن المستوي الدلالي في المحصلة يدرس ويعالج الكلمات والعلامات في النص، بهدف تحليل الدلالات المتعلقة بالبني المختلفة داخل النص مثل: التحليل اللغوي البلاغي والمعجمي: ويتضمن تحليل العناصر اللغويّة المختلفة المستخدمة في النص مثل الإيقاع والتكرار والتشبيه والاستعارة والمجاز والتخاطب. كما يدرس دلالات الجمل كمعنى الجملة وكيفيّة ارتباطها بجمل أخرى. وما هي أنواع البنى الدلاليّة في النص الأدبي وبدلالات الخطاب.؟. كما يهتم بدلالات عمليّة, كالمعاني التي تنشأ من السياق، مثل الجمهور المقصود أو لهجة المؤلف. أما الدلالات المعجمية: فتهتم بمعاني الكلمات والعبارات الفرديّة. (2).
ثانياً – على مستوى التحليل السيميائي: إن السيمياء علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفيّة, كاللسانيات والفلسفة, والمنطق, والتحليل النفسي, والأنثروبولوجيا, (ومن هذه الحقول المعرفيّة استمدت السيميائيات أغلب مفاهيمها وطرق تحليلها) كما أن موضوعها غير محدد في مجال بعينه، إنها تهتم بكل مجالات الفعل الإنساني بدْءًا بالانفعالات البسيطة ومرورا بالطقوس الاجتماعيّة وانتهاءً بالأنساق الإيديولوجيّة الكبرى. فالسيميائيات ليست نظريّة فحسب, وإنما هي ممارسة دائمة.” لذا لا تنفرد السيمياء بموضوع خاص بها، إنها تهتم بكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانيّة والعاديّة شريطة أن تكون لهذه الموضوعات سيرورة دلاليّة.
إن منهج التحليل السيميائي يسعى بوصفه منهجاً نقديّاً حديثاً ومهماً في تحليل النصوص الأدبيّة، إلى الکشف عن مكنونات النص من خلال الوصول إلى المعنى العميق لبنية النصوص الأدبيّة (المضمر والمسكوت عنه) عبر العلامات والإشارات والايحاءات والألوان والرموز والصور والأيقونات.. وتهدف السيميائيّة إلى تحويل الحقول المعرفيّة ( خصوصا اللغة والأدب ) من مجرد تأملات وانطباعات, إلى علوم بالمعنى الدقيق للكلمة. فالسيمياء تنظر للأشياء والموجودات بوصفها علامات، تدرس النص الأدبي وفق نسق إشاري، وتبحث في المعنى وأشكال وجوده, وبذلك تکون قد حررت النص من القيود التي فرضتها عليه المناهج (النسقيّة) كالبنيويّة أو التفكيكيّة أو نظريّة التلقي أو الشكلانيّة الروسيّة وغيرها، وبالتالي لم تعد السيميائية مُکبلة بالنظر إلى الشکل, أو البنية على حساب المعنى والدلالة. هذا وتتعدد آليات التحليل السيميائي بما يتناسب مع حرکة المعنى وتطوره مثل التشاكل والتباين إذ يعدان من أهم المعايير السيميائيّة التي تساعد محلل الخطاب على استكناه دلالات النصوص, وتحديد مقاطعه بسهولة ويسر، وتسعفه کذلك على تکوين قراءة تأويليّة منسجمة ومتسقة تركيبياً ودلاليّاً، وتداوليًا. أما (المربع السيميائي) فهو أداة لتصوير المتضادات التي ينهض عليها النص مما يساعد على إبراز قيم المعاني وتميزها فبضدها تتميز الأشياء وتُعرف, وکل هذه الآليات تجسد الجانب الشكلي للمعنى في مستواه الأكثر عمقاً.(3 )
ثالثاً – على مستوى التحليل النفسي: يمكن اعتبار التحليل النفسي للنص الأدبي، ذاك المنهج الذي يستمد آلياته النقديّة من نظريات التحليل النفسي كـ (الفروديّة, والنيوفرويديّة, والتحليل المادي النفسي, والنفسي المثالي.. وغير ذلك). ، حيث يُعنى بإخضاع النص الأدبي للبحوث النفسيّة، إذ يتم تحليل نفسيات الكتاب، وخصائص شخصياتهم بالاعتماد على كتاباتهم وحياتهم. وبتعبير آخر يمكن اعتبار المنهج النفسي في دراسة الأدب، بمثابة فحص وتمحيص للنصوص الأدبيّة، وربطها ارتباطا وثيقا بنفسيّة من أنتجها، والأخذ بعين الاعتبار، دواخل وكوامن الشخصيات، والعقد النفسيّة التي قد تؤثر فيها، وكذا المكبوتات داخل نفسيّة الأديب التي يسعى إلى تفريغها من خلال عدّة مسارات من النصوص التي يشتغل عليها. وكذلك ما يتعلق بالتأثير الذي يحدثه النص على القارئ، وكيف يستجيب للأفكار والمشاعر والمعنى العام للنص. (4).
رابعاً – على مستوي التلقي:
تعكـس هنا الكيفيـّة الـتي يـُدرك بها الـنص مـن خلال القارئ أو المتلقي. ويعد تحليل الـنص فعـلا قرائيّـا, والملاحظـات المستنتجة من القراءات العديدة هنا تـستمد شـرعيتها مـن الـنص مباشـرة، ولـيس مـن بنـاء حقـل ثقـافي أو علمـي آخـر. وبالتالي تبدأ لحظـة كـشف المعـنى بالانطبـاع المباشـر الـذي يخلفـه الــنص في نفــس المتلقــي، وهــو في حقيقتــه صــورة فطريـّـة نقيـّـة لــذلك اللقــاء بــين الــنص وقارئه، لا تشوبه شائبة تعيق فعل النص الخلاق في إثارة الانطباع الفطـري الأولي لدى المتلقي، لكـن هذه الصورة الفطريّة الصادقة تُصدّع, عندما يسخر المتلقـي الـنص لرؤاه الذاتيّة ومواقفه الأيديولوجية.
لقد سعت نظريّة التلقي إلى تأسيس مفاهيم وآليات اجرائيّة لبلورة مستويات قراءة النص الأدبي ونقده, فاعتُبرت هذه النظريّة منهجا للقراءة والتأويل، حيث اهتمت بالقارئ نظرا لدور هذا الأخير في بناء معنى النص وتحقيقه، وهي تهتم بكيفيّة تلقي النصوص والخطابات وتبيان الوسائل التي تتم بها عملية استقبال الكتابات الابداعيّة.
إذن يدرس مستوي التلقي, القراءات المختلفة و التفاسير والتأويلات العديدة من قبل المتلقي لهذا النص الادبي عموماً. فالنص في جوهره لم يفرخ مجرداً, بل هو نتاج الواقع, وبالتالي عند صياغته هو يصور الواقع, من جهة, ويخاطب الواقع ممثلاً هنا بمتلقي النص, الذي يقوم بقراءة هذا النص والبحث فيه عن ذاته الفرديّة والاجتماعيّة معا من جهة ثانية.
إنّ كل ما يقال حول نص من النصوص هو في حد ذاته تلقي أو قراءة، وهذه القراءة ترتبط بعلم و ثقافة المتلقي وأحواله النفسيّة ورؤيته الأيديولوجية. وإن كان هناك اختلاف مكاني أو زماني أو ثقافي بين المرسل أي كاتب النص والمرسل إليه, أي القاري، فلن ينتقل المعني من المرسل الي المرسل إليه بشكل كامل, وستختلف بالضرورة القراءات. لكن إن كان بينهما اتحاد أو توافق سينتقل المعني بشكل تام إلى حد كبير, ولا يمكن أن يكون عند القاري قراءات مختلفة.
خامساً – على المستوى الجمالي:
ونقصد بالبعد الجمالي هنا الذوق الأدبي والفني الذي تتميز به هذه الشخصيّة أو تلك. وبطبيعة الحال يمكننا من خلال العمل الأدبي نفسه أن نفسّر لماذا هذا الذوق دون غيره. ذلك أن الذوق ليس بالشيء المُعطى منفرداً, وإنما هو شيء تتدخل عدد من الشروط في تحديده. ومنها على سبيل المثال لا الحصر العمر والجنس والطبقة الاجتماعية.
ويعتبر النقد الجمالي فرعاً من فروع النقد الأدبي الذي يركز على تحليل وتقويم الجماليات في الأعمال الأدبيّة. ويهدف هذا النوع من النقد أو التحليل إلى فهم كيفيّة استخدام العناصر الجماليّة مثل اللغة، الأسلوب، الصور، والرموز في النصوص الأدبيّة لإثارة المشاعر والتأثير في القارئ.
إن أثر النقد الجمالي في الأدب يتجلى في تعزيز تقدير الجوانب الفنيّة والجماليّة للأعمال الأدبيّة، مما يساعد على تعميق الفهم والتقدير للأدب كفن. كما يسهم في توجيه القراء والنقاد نحو استكشاف الأبعاد الجماليّة للنصوص، مما يثري التجربة الأدبيّة ويعزز من قيمة الأدب في المجتمع, ويرتقي بالذوق الفني للمتلقي وإحساسه بجماليات الحياة.
إن الموقف الجمال يُعالج النص على أساس المفردات التي تستخدم لتحقيق البعد الجمالي في النص, كالنحو وعلم البلاغة والمحسنات البديعيّة, كالترادف, والطباق, والمقابلة, والتقديم والتأخير, والتورية, وكثرة الانزياحات اللغويّة, والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة. (5).
سادساً – على المستوى الانفعالي:
ويكون الحديث هنا عن الحزن والألم والفرح في هذه النص, وعن الظروف المحيطة بالكاتب والنص معاً, فالظروف الصعبة و السيئة للمجتمع من حيث انتشار الفقر والجوع والجريمة والتشرد والغربة والمخدرات والدعارة مثلاً, غالباً ما تولد عند الناس شعور غياب العدالة والمساوة, ووجود الظلم والاستبداد, وغياب القانون وقلّة الايمان بقيم ومثل الفضيلة دينيّة كانت أو وضعيّة, الأمر الذي يؤدي إلى انتشار سلوكيات غير أخلاقيّة, مثل قتل الناس بعضهم بعضا, والسرقة, وشرب الخمر وتعاطي المخدرات, وممارسة الكذب والنميمة .. وغير ذلك. وفي المقابل يمكن أن يعبر النص عن الفرح وحب الحياة والأمل وحب الانتماء والتضحية والشجاعة ..الخ.
كاتب وباحث وناقد ادبي من سوريا.
d.owaid333d@gmail.com
1- موقع إجابة – ما هي أنواع البنى الدلالية في النص الأدبي.. بتصرف.
2- راجع موقع إجابة – بتصرف.
3- السيميائية وتحليل النصوص الأدبية – مجلة كلية دار العلوم – جامعة الفيوم – نجلاء عبد التواب عبد الباري – بتصرف.
4- التحليل النفسي للأدب – موقع القدس العربي – مصطفى لغتيري. بتصرف.
5- النقد الجمالي: بوابة الإبداع ومرآة الأدب” – موقع الموسوعة –