لدى إسرائيل مشكلة روسيّة بالتأكيد، تكبر وتتفاقم بسرعة. هذا الانطباع الذي خرجت به في ختام زيارة للعاصمة الروسية موسكو.
ظهر جليّاً في حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للإعلامية ميشيلا حداد من قناة “سكاي نيوز عربية”، أنّ المشكلة أكبر بكثير ممّا يصل للمراقبين الذين يتابعون من خارج روسيا.
تبنّى لافروف بشكل موارب تقويم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنّ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 لم يأتِ من فراغ، وهو التصريح الذي أشعل معركة دبلوماسية وسياسية بين تل أبيب والأمم المتحدة لم تنتهِ حتى اليوم. وصف اغتيال إسماعيل هنية في إيران خلال مراسم الاحتفال بتنصيب رئيس الجمهورية الجديد بأنّه عمل دنيء. ثمّ عاد بالتاريخ ليقول إنّ الاتحاد السوفيتي فعل أكثر من كلّ مَن على وجه الأرض لإنقاذ اليهود وهزيمة من صنعوا الهولوكوست، ويضيف بشكل لافت جدّاً أنّ اليهود لم يقتلوا وحدهم في المحرقة، بل قتل معهم عدد كبير من الروس والبيلاروس والأوكران والكازاخ والشعوب الأخرى التي كانت تقطن أراضي الاتحاد السوفيتي.
انتقل بعدها لافروف ليقول بشكل لا لبس فيه إنّه “عندما يحتكم بعض المسؤولين إلى مقولة أنّنا نحن الشعب اليهودي كنّا ضحايا الهولوكوست، ولذلك كلّ ما نفعله يمكن التساهل معه وغفرانه، فإنّ ذلك يتحوّل إلى نزعة سيّئة للغاية.. إنّ هذه مظهر من مظاهر تلك الاستثنائية التي تميّزت بها ألمانيا الهتلريّة والأيديولوجية الهتلريّة”.
الهولوكوست والسّجال الرّوسيّ الإسرائيليّ
ليست المرّة الأولى التي يتداخل فيها موضوع الهولوكوست في السجال الروسي الإسرائيلي، لكنّه لم يكن مرّة بهذا الوضوح وهذه المباشرة.
ما الذي يجري؟
انتقلت العلاقات الروسية – الإسرائيلية، مع مرور الزمن، من حالة توتّر عالية إبّان الاتّحاد السوفيتي، بسبب دعم الكرملين للقضية الفلسطينية واصطفافه إلى جانب الدول العربية المعادية لإسرائيل، إلى التحسّن التدريجي منذ تسعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى العقد الثاني من الألفية، الذي شهد أفضل العلاقات بين موسكو وتل أبيب. حتى بعد تدخّل روسيا العسكري إلى جانب نظام بشار الأسد عام 2015، حافظت إسرائيل على حرّية العمليات العسكرية في سوريا لضرب الأهداف الإيرانية بموافقة ضمنية من موسكو. وشهدت الاتصالات واللقاءات المباشرة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورؤساء وزراء إسرائيل، لا سيما بنيامين نتنياهو، طفرة غير مسبوقة في تاريخ علاقات البلدين.
بدأ كلّ شيء يتغيّر منذ الحرب الأوكرانية الروسية نتيجة الضغوط الأميركية على إسرائيل وإلزامها بمواقف أقرب الى أوكرانيا، ومن بينها محاولات لم تهدأ، ولم تنجح حتى الآن، لتزويد كييف بصواريخ دفاعية أميركية الصنع من المخزون الإسرائيلي. وزادت الأمور تعقيداً مع اتّخاذ موسكو موقفاً مندّداً بالحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ما وضع العلاقات بين البلدين أمام امتحان جيوسياسي خطير ومعقّد.
تضغط التحوّلات الجيوسياسية والاصطفافات الإقليمية والدولية بشكل مباشر على العلاقة الروسية الإسرائيلية. آخر التطوّرات في هذا المجال، إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موافقته على اقتراح قدّمته وزارة الخارجية الروسية بشأن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مع إيران. يحصل ذلك في ضوء تقارير دولية عن تزايد اعتماد روسيا على إيران لدعم حملتها العسكرية في أوكرانيا، بالمسيّرات والصواريخ البالستية، على الرغم من نفي موسكو وطهران لذلك.
روسيا ولعبة التّوازنات المعقّدة
المصادر الرفيعة في موسكو تقلّل من هذا الاعتبار، وتفيد بأنّ الكرملين يخوض لعبة توازنات معقّدة في العالم، وفي القوقاز تحديداً، لا تحتمل مثل هذه الاصطفافات الحاسمة التي يبالغ البعض في تأويلها. ويشير مصدر روسيّ رفيع إلى أنّ موقف بلاده مثلاً الداعم لممرّ زنغزور الذي يربط باكو الأذربيجانية بإقليم نخجوان، أقلق طهران كثيراً واستدرج تصريحات إيرانية متوتّرة، لأنّ مثل هذا التطوّر الجيوسياسي سيعزّز تشكيل عالم تركي يربط تركيا بدول آسيا الوسطى ذات الأصول التركية، وهو ما سيؤدّي إلى إغلاق الطريق الإيراني إلى أوروبا. أمّا الرواية الروسيّة فتضع هذا الموقف في سياق أنّه ضد سياسات توسعة الناتو وضدّ المصالح الأرمينية بسبب اصطفاف أرمينيا مع الغرب إلى جانب أوكرانيا، وهو ما يجعل المصالح الإيرانية جزءاً من الأضرار الجانبية غير المقصودة من جانب موسكو!! يعطي هذا المثال صورة عن حجم التعقيدات التي ترافق صناعة الموقف الروسي حيال الخصوم والحلفاء.
من ناحية أخرى، تستغلّ موسكو موقفها في غزة لإقامة نوع من التوازن الأخلاقي مع واشنطن. فبإزاء حملة الإدانات الدولية على موسكو نتيجة الحرب في أوكرانيا، يجد الكرملين في وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية نافذة ملائمة لشنّ حملة مضادّة على الدعم الغربي والأميركي تحديداً للحملة الإسرائيلية على غزة. بالنسبة لروسيا، يوفّر العنوان الفلسطيني فرصة لإعادة تصوير موسكو كطرف مدافع عن حقوق الشعوب المضطهدة، لا سيما في نظر العديد من الدول النامية والجنوب العالمي. بتبنّي موقف مؤيّد للفلسطينيين وانتقاد إسرائيل بشكل متزايد، تعزّز روسيا صورتها في العالم العربي والإسلامي وأمام الجمهور الدولي الذي ينظر إلى الغرب بعين الشكّ بسبب دعمه لإسرائيل، وتوسّع رقعة الدول الراغبة في تأييد روسيا في القضايا التي تعنيها.
لقد كشف تصويت الأمم المتحدة على قرار تدعمه روسيا والصين بشأن فلسطين في 18 أيلول 2024 أنّ الكثير من الدول التي كانت تتردّد سابقاً في انتقاد أفعال روسيا في أوكرانيا بدأت تنتقد الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل، وهو ما زاد من حدّة الاتّهامات الدولية للغرب بازدواجية المعايير. تدفع إسرائيل ثمناً باهظاً بسبب حاجة كلّ من روسيا والصين إلى الاستثمار في المشاعر المعادية لأميركا، من بوّابة غزة وغيرها، وتوظيف ذلك في مساعي إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي.
إلى ذلك، تخشى موسكو من تأجيج مشاعر المسلمين داخلها، لا سيما في مناطق شمال القوقاز، بما في ذلك الشيشان وداغستان، حيث قد تؤدّي أيّ مواقف مؤيّدة لإسرائيل أو متحيّزة ضدّ الفلسطينيين إلى إثارة اضطرابات داخلية وزيادة التوتّرات الأمنيّة.
بالفعل أسفرت هجمات على مراكز للشرطة وكنائس وكنيس يهودي في جمهورية داغستان الروسية شمال القوقاز عن مقتل 19 ضابط شرطة والعديد من المدنيين، في حزيران الفائت، وهو ما يشير إلى هشاشة الأوضاع واحتمال تفجّرها، أو الاستثمار في ملفّ غزة لإعادة إغراق روسيا في موجة إرهاب جديدة.
في حادث آخر هاجم حشد معادٍ لليهود مطار مخاتشكالا بداغستان، بحثاً عن ركّاب يهود آتين من تل أبيب، وهو ما يسلّط الضوء على تصاعد مشاعر معاداة اليهود في روسيا اليوم، لا سيما منذ حرب أوكرانيا، وتوظيف خطاب معادٍ لليهود، حتى بين طيّات الخطاب الرسمي، بسبب يهوديّة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
القوميّون الرّوس واليهود
ثمّة من يذهب لوضع هذه الأحداث في سياق أكثر تعقيداً ويربطه بصراع دائر بين القوميين الروس وبين اليهود حول تشكيل المستقبل السياسي لروسيا وهويّتها. تاريخيّاً، عانت روسيا من موجات متكرّرة من معاداة السامية، منذ أيام الإمبراطورية الروسية مروراً بالحقبة السوفيتية، وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي يجد فيها يهود روسيا أنفسهم مستهدفين بشكل متزايد. وقد حذّر الحاخام بيرل لازار، الشخصية اليهودية البارزة في روسيا، من الخطر المتزايد على الجالية اليهودية، في حين دعا آخرون اليهود الروس إلى مغادرة البلاد، خوفاً من تكرار التاريخ.
في كلّ الأحوال، تواجه إسرائيل بلا شكّ مشكلة متفاقمة مع روسيا، ستزداد تعقيداً كلّما تعمّق تقارب موسكو مع أطراف معادية لإسرائيل مثل إيران وحماس. هذا التحوّل، إلى جانب التطبيع الروسي النسبي مع انتشار الخطاب المعادي للسامية وتوظيف ذلك في أجندة موسكو الأوسع المعادية للغرب، يشير إلى حقبة جديدة من العلاقات المتوتّرة بين الجانبين.
روسيا ماضية في استغلال النزاعات العالمية لتحقيق مكاسبها الجيوسياسية، ولن يكون بإمكان إسرائيل الاعتماد على التوازن الدقيق الذي كان يميّز علاقتها بها. روسيا لم تعد مجرّد وسيط غير مبالٍ في ملفّات الشرق الأوسط، بل لاعب متحفّز يسعى إلى إعادة تشكيل ديناميات الشرق الأوسط لخدمة مصالحه الخاصة وتحدّي النفوذ الغربي. سيكون لكيفية تعامل إسرائيل مع هذا المتغيّر دور حاسم في استراتيجياتها الأمنيّة والدبلوماسية في السنوات المقبلة، وفي صياغة علاقاتها باللاعبين الآخرين في الشرق الأوسط.