أكثر ما يثير الاستغراب استخدام بعض الفصائل الفلسطينية مصطلحات مثل “الحسم العسكري”، في وصف انقلاب حركة حماس الدموي على الشرعية الوطنية في قطاع غزة منتصف حزيران/ يونيو 2007، أو استخدام مصطلح “طرفي الانقسام” لوصف الحالة التي نشأت بعد الانقلاب، دون النظر أن حماس ومنذ تأسيسها رفضت أن تكون جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية، وطرحت نفسها بديلا لها، وتتخذ قراراتها دون التشاور مع الكل الوطني.
والمصطلح الأكثر غرابة وفيه رائحة العفن عندما تصف هذه الفصائل ما يجري في شمال الضفة الغربية بأنه “اقتتال داخلي” في حين أنها تدرك إلى أين قد تأخذ فوضى السلاح والفلتان الأمني الضفة الغربية والقضية الفلسطينية برمتها.
ماذا يمكن أن نطلق على هؤلاء الذين يستخدمون هذه المصطلحات الانتهازية؟ ولماذا هذه الفصائل تتصرف هكذا بلا مسؤولية وطنية ولا حتى الاكتراث بمستقبل الشعب الفلسطيني؟
ثم ألا ترى هذه الفصائل ما الذي حل بقطاع غزة وأهلها من دمار وخسائر بالأرواح وجرحى ومعاقين بمئات الآلاف، نتيجة تفرد حماس بالقرار وارتهانها لأجندات خارجية؟
لقد شجع استخدام هذه المصطلحات في تمادي حماس وغير حماس في أخذ الشعب الفلسطيني لمغامرات غير محسوبة، ولا تراعي بأي شكل ميزان القوى، واستخدام هذه المصطلحات من شأنه اليوم تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية، ونشر الفوضى، فهل فكرت هذه الفصائل بالنتائج الوخيمة التي ستترتب على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؟
لقد أغمضت هذه الفصائل أعينها وأصمت آذانها عن كل ما جرى للدول العربية التي عمت فيها الفوضى، فاليوم تخضع أجزاء من هذه الدول للاحتلال الإسرائيلي، وفيها غياب للدولة والقانون وتعيش حالة انهيار اقتصادي واجتماعي شامل.. هل تريد هذه الفصائل أن تأخذ الشعب الفلسطيني إلى حالة الفوضى هذه؟ وهل سيكون بإمكان الشعب الفلسطيني الصمود على أرضه وقطاع غزة منطقة أصبحت غير قابلة للحياة، ويكون الاقتصاد الوطني مدمر بالكامل؟
سألت صديقا، وهو عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وله في العادة رأي موضوعي عن سبب تصرف هذه الفصائل بهذه الطريقة الانتهازية غير المسؤولة فقال لي: هل تريد جوابا مختصرا أم شرحا طويلا؟ قلت: دعنا نبدأ بالجواب المختصر، فقال: ابحث عن الممول؟؟؟!!!
بالمناسبة هذه الظاهرة السلبية والتي كانت سببا في شرذمة الساحة الفلسطينية ونشر الفوضى فيها على امتدا عقود، هي ظاهرة ليست بنت اليوم، فلطالما كانت بعض الفصائل تبحث عن ممولين، وهذا الأمر قد يمكن اعتباره مبررا، ولكن ما هو غير مبرر أن تصبح الفصائل جزءا من مشروع الدول الممولة لها، حتى لو كانت هذه التوعية تمس جوهريا بالمصالح الوطنية الفلسطينية، وتحرم الشعب الفلسطيني من مراكمة مكتسباته الوطنية.
المسألة هنا ليست مجرد وجهات نظر أو اجتهادات سياسية، انها وصفة للفوضى وتشجيع على الارتهان لأجندات خارجية، وتقويض لكل الحالة الوطنية.
نعود لما يجري في شمال الضفة الغربية، هذه الفصائل تدرك أن مجموعات من الشباب تُمَوَل من الخارج وتتلقى أوامرها من مموليها، وهذه المجموعات لا تخفي ذلك، بل إنها لا تأبه إذا كان هؤلاء الممولون يستخدمون الدم الفلسطيني والقضية الفلسطينية لخدمة مصالحم.
والمشكلة أن هذه الفصائل تعلم علم اليقين كيف كانت نتائج ذلك في سوريا ولبنان وقطاع غزة. ومع ذلك، وبشكل انتهازي تستخدم مصطلح “الاقتتال الداخلي”، وتساوي بين من ينشر الفوضى والفلتان ويعممون ظاهرة الخروج على القانون والتمرد على القيادة الفلسطينية الشرعية المعترف بها دوليا والتي بعض الفصائل جزء منها، وبين الأجهزة الأمنية التي تتصدى لهذا الفلتان والخروج على القانون، ثمة ما يجب ان نتوقف عنده ونعالجه وهو هذه الظاهرة التي تدعي الوطنية وهي أداة بيد من يمولها، ولعله قد آن الأوان بضرورة وضع قانون ينظم العلاقات الوطنية وكيفية تشكل الأحزاب والفصائل، بحيث يتم ضمان ألا تتلقى هذه الفصائل والأحزاب تمويلا خارجيا، وأن يصبح هذا التمويل أهم من الشعب والوطن والقضية.
لقد مثلت هذه الظواهر الانتهازية والانقسامية الفصل الأكثر سلبية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، فصل لم يعد مقبولا استمراره لأنه ليس وجهة نظر سياسية معارضة، وإنما هي ظاهرة مأجورة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.