أخيراً وافقت دولة الاحتلال على وقف إطلاق النار في غزة، والأهم أنها وافقت على نفس المشروع الذي تم عرضه في شهر أيار العام الماضي وهو ما يكشف حجم فشلها في تحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها.
لقد فشلت دولة الاحتلال بعد خمسة عشر شهراً من حرب الإبادة في الوصول إلى أسراها واستعادتهم، وفشلت في القضاء على المقاومة التي استمرت في تكبيد الاحتلال خسائر مهمة في صفوف جيشها، وهي أُجبرت في الاتفاق على الانسحاب بنهاية المرحلة الأولى من معبر فيلادلفيا ومن وادي غزة (نتساريم) الذي كانت تبني فيه قاعدة ثابتة ودائمة لها، وفشلت خطة جنرالاتهم في السيطرة على شمال غزة وتحويله لمنطقة عازلة، وفشلت في وضع قيادة فلسطينية لإدارة غزة تابعة لها، وهي فشلت في ضمان حرية حركة لها في القطاع وفي نزع سلاح المقاومة.
لا نقول إن المقاومة انتصرت لأن الخسائر مُرعبة في كل شيء، فهي كانت حرب إبادة استهدفت كل البشر والحيوانات والشجر وكل ما يدعم بقاءهم على قيد الحياة.
يضاف لذلك إن لا ضمانات حقيقية تربط مراحل الاتفاق الثلاث: هنالك تبادل للأسرى في المرحلة الأولى، لكن لا ضمانات لانسحابه الكامل من القطاع في المرحلة الثانية، ولا ضمانات لتسهيل عملية إعادة الإعمار مع بدء المرحلة الثالثة.
هذا الصمود الذي يصل حد الإعجاز لشعب غزة ومقاومتها، وإفشال أهداف دولة الاحتلال يُسجل في التاريخ للمقاومة والشعب الفلسطيني: لم يرحل الشعب الفلسطيني عن أرضه، ومقاومته لم تغادر إلى المنافي وأُجبر الاحتلال على اتفاق لم يكن يريده.
لكن علينا ألا ننسى أن المعركة قبل السابع من أكتوبر كانت حول مستقبل الضفة الغربية. غزة كانت تحارب لفك الحصار عن نفسها ولإسناد الضفة ومنع الاحتلال من تحقيق أهدافه فيها بتهويد القدس وطرد الفلسطينيين من أحيائها وتقسيم المسجد الأقصى.
وعلينا ألا ننسى أيضاً، أن نتنياهو لم يُجبَر فقط على الموافقة على وقف إطلاق النار بسبب صمود المقاومة وفشله في تحقيق أهدافه وانفضاض الإجماع الإسرائيلي على استمرار الحرب، ولكن أيضاً لأن هنالك إدارة جديدة في البيت الأبيض أوصلت رسالة واضحة لدولة الاحتلال بضرورة إنهاء الحرب لأن الرئيس الجديد، ترامب، لا يريد أن ينشغل في إطفاء حرائق الشرق الأوسط.
أولويات الرئيس ترامب كما أوضحها في مقابلة تلفزيونية هي داخلية: تعزيز الاقتصاد الأميركي عبر فرض تعرفات جمركية على الخصوم والحلفاء، والسيطرة على مفاصل استراتيجية للاقتصاد الأميركي بما فيها قناة بنما وجزيرة غرينلاند، ومنع الهجرة للولايات المتحدة والتخلص من ملايين المهاجرين غير الشرعيين، والقضاء على الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة.
يضاف لذلك إن ترامب يريد العودة للمسار الذي بدأه في ولايته الأولى وحاول الرئيس بايدن البناء عليه وفشل، وهو توسيع نطاق تطبيع الدول العربية مع إسرائيل، والدفع بصفقة القرن أو ما يشبهها من جديد لإقناع المملكة العربية السعودية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وتشديد الحصار على إيران لإنهاء برنامجها النووي أو مهاجمتها مباشرة بعمل عسكري محدود لا يتسبب بحرب إقليمية كبرى.
هذا يعني أن معركة السيطرة على الضفة بشكل قانوني، أي من خلال اتفاق مع دولة الاحتلال، ستفتح من جديد.
نعلم أن السلطة الفلسطينية رفضت سابقاً وبحزم صفقة القرن، ومن المهم جداً أن يستمر هذا الرفض في المرحلة الجديدة، لكن هذا الرفض وحده لا يكفي لأن هذا يعني استمرار قيام الاحتلال بالضم غير القانوني لها من خلال الاستيطان والتهويد.
الواقع يقول إن معركة طوفان الأقصى فرضت واقعاً جديداً مُلخصه أن القضية الفلسطينية عادت للصدارة في المشهد العالمي بعد أكثر من عقدين من النسيان، وأن هذه القضية قد شَغلت الولايات المتحدة لأكثر من خمسة عشر شهراً بحيث اضطرت لإرسال حاملات طائراتها وجنودها إلى المنطقة ودفع مبالغ طائلة للدفاع عن دولة الاحتلال.
وهو يقول أيضاً، إن دولة الاحتلال ما كان بإمكانها الصمود لولا الإسناد الأميركي والغربي والإقليمي أيضاً لها.
بكلمات أخرى، تبين للقريب والبعيد أن هذه الدولة لا يُمكنها أن تحمي نفسها دون إسناد دولي – إقليمي مباشر لها.
إنها عبء أمني وسياسي وأخلاقي ومالي على الغرب والإقليم وهي لا تُقدم لهم أي إضافة نوعية.
وهذه فرصة يجب عدم التفريط بها ويجب البناء على حقيقة أن السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط يبدأ من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
في المقابل سترغب الولايات المتحدة ودولة الاحتلال في البناء على ما يعتقدون أنه إنجازات لهم في الإقليم، وهم يتحدثون هنا عن ثلاث مسائل: إضعاف حزب الله في لبنان وقطع خطوط إمداده، إسقاط نظام الأسد وخروج إيران من سورية، وعدم رد إيران على الاعتداء الإسرائيلي الأخير عليها وهو مؤشر بالنسبة لهم على ضعفها.
في حساباتهم يُمكن الآن استهداف إيران مباشرة دون الخوف من «أذرعها» في المنطقة، على الأقل هذا ما تريده دولة الاحتلال وتمارس الضغوط على الولايات المتحدة للقيام به نيابة عنها.
هذه الحسابات أيضاً غير دقيقة. صحيح أنه تم إضعاف حزب الله لكنه لا يزال يحتفظ بقوة كبيرة شاهدناها في قدرته على منع دولة الاحتلال من احتلال جنوب لبنان خلال أكثر من شهرين من المواجهة البرية الضارية.
وربما يخدم سقوط نظام الأسد المقاومة في المدى المتوسط، إذ لا يُمكن أن يقبل السوريون استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم وسيجبرون في النهاية على مقاومتها وعندما يحدث ذلك فهم سيدركون أهمية الحاجة إلى حلفاء لمساندتهم.
أما إيران، فإن كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 قد يدفعها لامتلاك السلاح النووي لحماية نفسها، تماماً مثلما فعلت كوريا الشمالية.
لذلك، في معركة التصدي لمحاولات الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الاستثمار فيما يعتقدون أنه إنجازات لهم من خلال محاولات فرض صفقة القرن أو نسخة جديدة منها على الشعب الفلسطيني، يجب أن يتذكر الفلسطينيون أنهم لم يهزموا في هذه المعركة، وأن معركة طوفان الأقصى قد جعلت العالم بأكمله يدرك أن لا سلام أو استقرار في هذه المنطقة من العالم دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية بشكل عادل.
هذا يعني أن على منظمة التحرير الفلسطينية واجبات أساسية أهمها توحيد الشعب الفلسطيني تحت مظلتها، وعدم الكلل من التأكيد على أن أي دولة فلسطينية لا تشتمل على كامل غزة وكامل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية لن تكون مقبولة على الشعب الفلسطيني، وأن عليها أن تدفع باتجاه المقاومة الشعبية إن كانت تعتقد أن المقاومة المسلحة في الضفة الغربية غير مفيدة الآن.
يجب أن تصل منظمة التحرير الفلسطينية إلى قناعة بأن لا أحد يسمع «ساكت»، ولا حل دون وجود أزمة تُقلق الاحتلال والعالم، ولا حل دون وحدة الضفة وغزة، ولا حل أيضاً دون أن يكون الكل الفلسطيني ممثلاً في مؤسساتها.