مع سقوط نظام البعث في سوريا في الثامن من كانون الأول المبارك عام 2024، تسارعت الأحداث السياسية والعسكرية، وبدأت الشخصيات المؤثرة بالتوافد إلى دمشق للقاء قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع. في هذه الأثناء، تشهد العاصمة السورية معارك تفاوضية حامية تهدف إلى تقاسم النفوذ، وسط مشهد تتغير فيه ملامح الوطن المكلوم. غير أن العقلية الحزبية الكردية، على النقيض، ما زالت تراوح مكانها منذ تأسيس أول حزب كُردي في سوريا عام 1957.
فلا وجود لوفد كردي موحد، ولا خطة واضحة، ولا مشروع جامع يطرح أمام المفاوضين في دمشق. الأمر محير، فبينما يعاني الكرد السوريون من أخطار تهدد وجودهم، يبقى التساؤل مطروحاً: لماذا تظل هذه الحالة المتشرذمة؟
قلق وإحباط في الشارع الكردي
كان دافعي لهذا المقال، مكالمة أجريتها مع صديق في قامشلو (كما يطلق عليها بالكردية)، عبّر خلالها عن حالة من القلق والإحباط تسود الشارع الكردي. فالخشية من المستقبل باتت ظاهرة، على الرغم من أن سقوط النظام جلب الأمل لكثير من السوريين. يزداد الوضع تعقيداً مع تصاعد التهديدات، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالدعوة إلى محاسبة الأكراد، وهو ما يعيد إلى الأذهان ممارسات الجيش الوطني في عفرين عام 2018، بما شمله ذلك من انتهاكات وتغيير ديموغرافي، مما يجعل الأكراد متوجسين من تكرار السيناريو ذاته.
ولا يمكن تجاهل الأثر السلبي لتحركات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على المشهد الكردي. فمنذ تأسيسها عام 2015، وبتحالفاتها المثيرة للجدل وسياساتها التي تمس العرب والكرد على حد سواء، عززت قسد صورة سلبية عن الأكراد في أذهان بعض العرب. كان ذلك واضحاً عندما دخلت قسد مناطق مثل الرقة ومنبج وريف دير الزور الشرقي، وانتهجت سياسات قمعية تجاه السكان، بجانب تحالفاتها مع نظام البعث السابق.
إعلام قسد القوي منحها تمثيلاً للكرد على الساحة السورية، غير أن واقع الحال يؤكد أن الكرد هم أول من دفعوا ثمن سياساتها. قسد وحلفاؤها كان لهم دور محوري في خنق الثورة السورية بمناطق الأكراد، مثل قمع النشطاء في عامودا وإجهاض الحراك الثوري الكردي عام 2011. وما يزال النهج ذاته مستمراً، مع تراجع دور المجلس الوطني الكردي وضعف تأثيره أمام قوة قسد.
دمشق: الوجهة الحتمية
السياسة الكردية في سوريا منذ نشأتها تتسم بالانشقاقات العميقة بين الأطراف المختلفة، وأبرزها الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي. هذا الانقسام أضعف موقف الأكراد، ووضع قضيتهم على المحك، في وقت تحتاج فيه القضية إلى وحدة الصف. يبدو أن الأحزاب الكردية ما زالت غير قادرة على تشكيل وفد مشترك أو تبني مشروع موحَّد، ما أدى إلى توجه أفراد وأحزاب إلى دمشق بشكل منفرد، أحياناً لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة على حساب المصلحة العامة.
ومن هنا، تظهر أهمية النصيحة التي قدمها الزعيم الكردي مسعود البرزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق، حين حث السياسيين الكرد على التوجه إلى دمشق بوصفها المكان الوحيد لحل القضية الكردية، بغض النظر عن هوية من يحكم سوريا. فالظروف السياسية والاجتماعية والديموغرافية في سوريا تختلف جذرياً عن تلك في العراق، ما يجعل فكرة تأسيس كيان كردي مستقل أمراً غير واقعي. ومع ذلك، ما زال الحماس غير المنطقي يقود البعض إلى التفريط بفرصة تاريخية لصياغة مشروع يُعيد طرح القضية الكردية بجدية على طاولة المفاوضات في دمشق.
مطالب الكرد في سوريا: قراءة واقعية
على عكس ما تروج له بعض وسائل الإعلام، لا يسعى الكرد في سوريا إلى الانفصال أو تشكيل دولة مستقلة.
بل إنهم يطالبون بحقوق مشروعة ضمن دولة سورية ديمقراطية تعددية. تشمل هذه الحقوق الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية كثاني أكبر قومية في البلاد، وضمان حقهم في دراسة لغتهم وممارسة نشاطهم السياسي بحرية، في إطار نظام لامركزي يعكس متطلبات الواقع الحديث.
لكن الوصول إلى هذه المطالب يتطلب إدراكاً حقيقياً بأن القضية الكردية لا تختزل في قسد أو في أي حزب آخر. بل إن القضية أكبر من أي تنظيم أو كيان سياسي، ويجب أن تكون مصلحة الشعب الكردي فوق كل الاعتبارات الحزبية.
القضية الكردية تمر اليوم بمفترق طرق حقيقي، بين فرصة لانتزاع الحقوق، وخطر فقدانها بسبب التشرذم والصراعات الداخلية. إذا أراد الكرد الحفاظ على حقوقهم وصون وجودهم، فإن الخطوة الأولى تبدأ بتوحيد الصف والكلمة. فالتاريخ لن يرحم المتخاذلين، والثمن الذي يُدفع الآن قد يكون باهظاً إذا استمرت السياسات الحالية.
– العربي القديم