مقابر الأرقام.. جرح فلسطيني ينزف منذ نصف قرن و676 شهيداً ينتظرون الكرامة تحت التراب

بن معمر الحاج عيسى

في ظل تصاعد التوترات المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تُلقي قضية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني بظلالها الثقيلة على المشهد الإنساني والقانوني، حيث كشفت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء عن ارتفاع صادم في عدد الجثامين المحتجزة إلى 676 شهيدًا، بينهم أطفال ونساء وأسرى، في سياسةٍ تُوصف بالعقاب الجماعي التي تمتد جذورها لأكثر من نصف قرن. جاء الإعلان الأخير بعد احتجاز جثامين ثلاثة شهداء قُتلوا خلال اشتباكات مع قوات الاحتلال في مخيم جنين فجر الثلاثاء الماضي، ليعيد تسليط الضوء على ممارسةٍ تُعتبر انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والإنساني، وتُحول رفات الضحايا إلى رهائن في صراعٍ غير متكافئ، حيث تُدفن الجثث في ما يُعرف بـ”مقابر الأرقام” تحت إجراءات سرية، مع وضع لوحات معدنية تحمل أرقامًا بدلًا من الأسماء، في محوٍ متعمد لهويات الضحايا وتاريخهم، بينما ترفض السلطات الإسرائيلية الإفصاح عن مواقع الدفن أو تسليم شهادات الوفاة، بل وتعترف صراحةً بفوضى إدارتها لهذه الملفات، ما أدى إلى فقدان بعض الجثث وتشويه أخرى، وفقًا لبيانات محلية ودولية.

تشير الأرقام إلى أن 71 من الجثامين المحتجزة تعود لشهداء من الحركة الأسيرة، بينما يُشكل الأطفال 60 حالة، والنساء 9 حالات، ما يؤكد استخدام الاحتلال هذه الممارسة كأداة ضغطٍ نفسيٍ على المجتمع الفلسطيني، عبر حرمان العائلات من حقها في دفن موتاها وفق الطقوس الدينية والثقافية، وهو ما يترك جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجمعية، حيث تُحاصر السلطات العائلات بغياب الاعتراف الرسمي بمصير أبنائها، بينما تتحول المقابر السرية إلى رمزٍ للانتهاك المستمر للحقوق الأساسية. وتكشف الوقائع التاريخية أن هذه السياسة بدأت مع احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وتصاعدت مع كل موجة عنف، حيث تُستخدم الجثامين كورقة تفاوضية في عمليات تبادل الأسرى أحيانًا، أو كرسالة ردعٍ قاسية، لكن الثابت أن العائلات الفلسطينية، برغم مرور عقود، لا تزال تُطالب باستعادة رفات أبنائها، في معركةٍ قانونيةٍ وإعلاميةٍ ضد آلة عسكرية تتعامل مع الموتى وكأنهم غنائم حرب!

من جهة أخرى، يُثير ملف “مقابر الأرقام” إدانات دولية متكررة من منظمات حقوقية، تُؤكد أنه يشكل انتهاكًا لاتفاقيات جنيف التي تلزم الدول المحتلة باحترام كرامة الموتى وتسليم جثثهم لأهلهم، لكن التعنت الإسرائيلي يستند إلى تفسيرات أمنية فضفاضة، بينما يُحذر خبراء قانونيون من أن استمرار هذه الممارسة يُعمق أزمة الثقة ويُغذي حلقة العنف، خصوصًا مع تحوّل المقابر إلى مواقعَ للصراع الرمزي، حيث تُنظم عائلات الشهداء وقفات احتجاجية متواصلة قرب حواجز الجيش، مطالبين بإعادة الرفات، بينما تُحاول سلطات الاحتلال طمس أي أثرٍ لهذه القبور، التي تنتشر في مناطق عسكرية مغلقة أو مناطقٍ حدوديةٍ يصعب الوصول إليها. وفي ظل غياب رقابة دولية فاعلة، تتحمل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي جزءًا من المسؤولية عن استمرار هذه الانتهاكات، التي لم تتوقف رغم تقارير الأمم المتحدة التي تدينها منذ سنوات، ما يضع العالم أمام اختبارٍ حقيقيٍ لإنسانيته، بينما تستمر عائلات الضحايا في نضالها المرير، حاملين صور أبنائهم المفقودين حتى تحت التراب، كشواهدَ على ظلمٍ لم ينتهِ.