من أوباما إلى كامالا

رفيق خوري

قوة الديموغرافيا وضعفها هي المصير، بحسب علماء الاجتماع، وحتى رجال السياسة صاروا يعطون للعامل الديموغرافي وزناً كبيراً في معاركهم، وما كان وزير الخارجية الأميركي الراحل جورج شولتز يبالغ في التشديد على درسين للدبلوماسيين: أولهما “معرفة أميركا” قبل معرفة البلد الذي يمثلون أميركا فيه، وثانيهما “التركيز على الديموغرافيا لفهم العالم والقوى التي تشكل المستقبل”.

وعلى رغم تعدد المواضيع الشخصية والسياسية التي تدور حولها معركة الرئاسة الأميركية فإن الديموغرافيا تبدو العامل المقرر في التصويت، وخيار أميركا 2024 ليس بين مرشحين ديمقراطي وجمهوري متنافسين من نخبة “الواسب”، بل بين أميركا متغيرة وأخرى مقاومة للتغيير، فالأولى دفعت باراك أوباما إلى البيت الأبيض وتدفع اليوم كامالا هاريس نحوه، والثانية يمثلها دونالد ترمب الذي يريد استعادة أمة الأكثرية البيضاء من أمة صارت تعددية.

تكفي الأسماء وحدها كرمز للتغيير الديموغرافي في أميركا، من أوباما ابن والد كيني إلى كامالا ابنة مهاجرة هندية، وحتى في بريطانيا فإن مهاجراً هندياً تولى رئاسة حكومتها ومهاجراً باكستانياً يتولى رئاسة بلدية لندن، والإحصاءات معبرة جداً كما سجلتها آن ماري سلوتر، رئيسة “أميركا الجديدة” والمسؤولة السابقة عن التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية: “أقل من نصف الأميركيين تحت سن الـ 18 هم من البيض، وعام 2027 سيكون ذلك صحيحاً على من هم تحت الـ 30، وفي الأربعينيات ستكون أميركا بلداً بلا أكثرية إثنية أو عرقية”.

وفي كتاب “من نحن؟” اعتبر صامويل هنتنغتون أن “التحدي الوحيد الداهم والأخطر لهوية أميركا التقليدية يأتي من الهجرة المستمرة من أميركا اللاتينية وخصوصاً من المكسيك، ومع تكاثر أعدادهم يشعر المكسيكيون الأميركيون أنهم مرتاحون إلى ثقافتهم الخاصة ويزدرون الثقافة الأميركية”، لا بل جزم بالقول إنه “لن يكون هناك حلم أميركانو بل حلم أميركي وحيد خلقه المجتمع الأنجلو-بروتستانتي”، وهذا الهاجس هو الذي يركب ترمب موجته ويبني على أساسه سياسته، فليس شعار “لنجعل أميركا عظيمة ثانية” سوى إصرار على تجاهل الواقع الديموغرافي والعودة لأميركا كما كانت من قبل، أمة تحكمها نخبة “الواسب”، أي البيض الأنجلو-ساكسون البروتستانت، فرؤساء أميركا على العموم كانوا مهاجرين من إيرلندا وبريطانيا وألمانيا وهولندا، حتى إن زعيماً كبيراً في الحزب الديمقراطي من أصل إيطالي، وهو ماريو كومو، لم يترشح للرئاسة تجنباً لحملات خصومه على المهاجرين الطليان والمافيا.

لكن الدنيا تغيرت، فالهجرة قوة لا ضعف، وأميركا أصلاً أمة مهاجرين، ويروي أوباما في مذكراته “أرض موعودة” أنه في “زمن الانقسام يصبح سرد القصص والأدب أكثر أهمية من ذي قبل، ونحن في حاجة إلى أن يوضح أحدنا للآخر من نحن وإلى أين نذهب؟ ونحن جئنا من كل مكان حاملين كل عناصر التعدد، وهذا كان دائماً وعد أميركا، وأيضاً ما يجعل أميركا أحياناً مشاكسة مثيرة للنزاع”، ففي هاواي قرأ أوباما مؤلفات الكتاب السود “في جهد لتربية نفسي لأن أكون رجلاً أسود في أميركا”، وفي جامعة كولومبيا ثم في شيكاغو ترك هوايات الشباب الرياضية والاجتماعية “لكي أصبح شخصاً جدياً وأستعيد حس الفكاهة”.

وهو يقول بصراحة إن “رغبتي في الترشح للرئاسة جاءت من الحاجة إلى أن أبرهن لوالدي الذي هجرني أنني مستحق وأعيش من أجل توقعات أمي”، لكن تحقيق الحلم لم يكن ممكناً لولا التغيير الديموغرافي الذي حدث في أميركا، ولا كانت حملة كامالا هاريس تقلع بقوة وزخم لولا ما أحدثته الديموغرافيا من تبدل في النسيج الاجتماعي.

ومن هنا خوف ترمب من كامالا، وترمب الخائف مخيف، فهو لا يتورع عن قول أي شيء وفعل أي شيء يتصور أنه يخدمه، فقد هاجم كامالا كشخص وسخر من كونها هندية الأصل وتساءل إن كانت هندية أو سوداء؟ لا بل قال بغطرسة وعجرفة: من هي كامالا؟ وكلما هاجمها شخصياً اتسع مد السائرين وراءها، تماماً كما أن كل محاكمة لترمب تزيد أنصاره، ولذلك حاول الفريق المقرب منه دعوته إلى الإقلاع عن التهجم الشخصي على منافسته والتركيز على البرامج السياسية والاقتصادية، وليس ذلك سهلاً فالطبع غلب التطبع، وكل رأسمال ترمب في السياسة هو الشتائم والسخرية من خصومه وإنكار كل شيء، واعتبار أن كل ما يكشف حقيقته هو “أخبار زائفة”.

لكن الواقع عنيد، فالتركيز على “تفوق العرق الأبيض” لعبة خاسرة في واقع ديموغرافي متغير، والعودة لصورة أميركا القديمة مهمة مستحيلة، ولو ربح ترمب الانتخابات الرئاسية فلأن الربح استثنائي وموقت، وحين تكون أميركا قوة عظمى، لا بل القوة العظمى الوحيدة في العالم حتى اليوم، فإن المعنى الوحيد لشعار حركة “ماغا”: نجعل أميركا عظيمة ثانية، هو الرهان على وهم العودة الوراء، وهي عودة لواقع لم يعد قائماً وليست على طريقة المثل الفرنسي القائل “خطوة إلى الوراء من أجل قفزة أفضل” حتى في السياسة الخارجية، فإن “من الخطأ استعادة صورة أميركا ما بعد الحرب الباردة، فأميركا خسرت على الأرض، وسفينة الدولة تسير في الاتجاه الخاطئ والعالم تحرك”، كما كتب في “فورين أفيرز” نائب مستشار الأمن القومي خلال رئاسة أوباما، بن رودس.

ولا مجال لأن تنطبق مفاهيم اليمين واليسار والوسط في أوروبا والعالم على السياسة في أميركا، فالكل تقريباً محافظ في اليمين أو اليمين المتشدد، ومن يتحدث عن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية يوضع فيه خانة اليسار، وحتى كلمة “ليبرالي” تهمة، ومن المضحك أن يتهم ترمب هاريس بأنها “شيوعية” وهي ليست أيديولوجية ولا تزال بلا مفاهيم سياسية واضحة، كما قالت “إيكونيميست” البريطانية في مقالة احتل عنوانها الغلاف: “كيف ستحكم؟”. هي قابلة للتعلم ولديها حس إنساني، وهو لا يرى حاجة إلى التعلم لأن الغريزة تكفي، والمؤكد أن هاريس تريد تقوية الطبقة الوسطى في حين أن ترمب يريد تقوية مصالح الأثرياء، و”الحديث عن الحلوى لا يجعل الفم حلواً”، بحسب مثل روسي.

شاهد أيضاً