منذ بواكير القرن العشرين، ومع تبلور فكرة القومية العربية في سياق انهيار الإمبراطورية العثمانية وصعود الحركات التحررية، هيمن الفكر الليبرالي على وعي قطاعات واسعة من النخب العربية المفكّرة والقيادية. فقد بدت الليبرالية، آنذاك، الإطار الأنسب لمواجهة الاستبداد، والمطالبة بالإصلاح، واستعادة الحرية السياسية والكرامة الوطنية.
غير أنّ العلاقة العربية–التركية دخلت طورًا بالغ التوتر، خصوصًا بعد الإعدامات الجماعية التي نفّذتها السلطات العثمانية عامي 1915 و1916 في بلاد الشام، حين أقدم جمال باشا السفّاح على محاكمة وإعدام نخبة من المثقفين العرب الداعين إلى الإصلاح والاستقلال، في عاليه وبيروت. وقد كشفت تلك الإعدامات، بوضوح فاجع، عن مأزق الدولة العثمانية في تعاملها مع مطالب العرب، وأسهمت في تعميق الشرخ السياسي والنفسي بين الطرفين.
ومع ذلك، لم تتأسس الدعوة القومية العربية على مشاعر عنصرية مضادّة للأتراك، بل جاءت، في جوهرها، تعبيرًا عن تطلّع تحرري مشروع، بعد قرون من الهيمنة التي اتسمت بسياسات التتريك، والتجهيل، والإفقار، وتمزيق البنية الاجتماعية العربية عبر إثارة العصبيات والفتن. لقد طالبت القومية العربية بالحرية والاستقلال، لا بالثأر أو الإقصاء.
ومنذ بدايات تشكّلها، تميّزت الثقافة العربية الحديثة بقدر ملحوظ من الانفتاح على الآخر، وبنفورٍ واضح من النزعات العنصرية والشعبوية. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، شهد العالم العربي موجات متتالية من النضال ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، في وقتٍ اتّسعت فيه الفجوة الاجتماعية والسياسية بين قوى الإقطاع وأعيان المدن المتحالفين مع الاستعمار، وبين الطلائع الوطنية المناضلة التي رأت في الحريات الليبرالية مدخلًا للتحرر وبناء الدولة الحديثة.
وفي هذا السياق، نشأت في بلدان عربية عدّة—كالعراق وسورية وفلسطين ولبنان والأردن—أحزاب وحركات سياسية واجتماعية تبنّت الفكر القومي العربي، وربطت بين النضال ضد الاستعمار الخارجي، ورفض المشروع الصهيوني في فلسطين، والسعي إلى تحقيق العدالة والحرية داخل المجتمعات العربية. ويُسجَّل لهذه الحركات أنّها، على خلاف تجارب أخرى في العالم، لم تنزلق نحو الفاشية أو تشكيل الميليشيات العقائدية، ولم تُقلّد التنظيمات النازية أو الفاشية الأوروبية، بل ظلّت—نظريًا على الأقل—وفية للأفق التحرري.
غير أنّ التجربة العملية سرعان ما كشفت حدود الليبرالية العربية، سواء على مستوى البنية الاجتماعية الهشّة، أو على مستوى الممارسة السياسية. فبعد فترات قصيرة من العمل الحزبي، تراجعت الأحلام الليبرالية أمام واقع الانقلابات، والاستبداد، وتغوّل الدولة الأمنية، وفشل النخب في بناء ديمقراطية راسخة. عند هذه النقطة، بدأ التحوّل التدريجي من الليبرالية بوصفها أفقًا فكريًا، إلى البحث عن بدائل أكثر التصاقًا بالعدالة الاجتماعية، فبرز مفهوم الديمقراطية الاجتماعية بوصفه محاولة للتوفيق بين الحرية السياسية، والعدالة الاقتصادية، ودور الدولة الاجتماعي.
لكن هذا التحوّل ظلّ، في معظمه، نظريًا أو جزئيًا، ولم يترسّخ كمشروع متكامل في الواقع العربي. وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح:
هل تسير الدول العربية اليوم فعلًا في اتجاه الديمقراطية الاجتماعية، أم أنّها تكتفي باستعارة المصطلحات دون تطبيق جوهرها؟
وهل تمتلك هذه الدول مذهبًا سياسيًا واضح المعالم، أم أنّها ما تزال تعيش حالة من الهلامية الفكرية والتناقض البنيوي بين الخطاب والممارسة؟
إنّ مأزق الفكر السياسي العربي لا يكمن في فقر المفاهيم، بل في عجز البُنى السياسية عن تحويل الأفكار إلى مؤسسات، والقيم إلى سياسات. ومن دون مراجعة نقدية جذرية لمسار الليبرالية العربية، وتحليل إخفاقاتها التاريخية، سيظلّ الحديث عن الديمقراطية الاجتماعية مجرّد شعار مؤجَّل، لا مشروعًا قابلًا للتحقّق.








