تُعَدّ الليبرالية الاقتصادية الوجه العملي للسياسة الاقتصادية المنبثقة عن الليبرالية الكلاسيكية، وهي المدرسة التي ترفضها بشدّة الليبرالية الاجتماعية أو الاشتراكية. فالليبرالية الاقتصادية في جوهرها فلسفة تقوم على مبدأ اقتصاد عدم التدخّل، إذ يرى أنصارها أن الحرية السياسية والاجتماعية لا يمكن فصلها عن الحرية الاقتصادية، ويستندون إلى حجج فلسفية عديدة لتأييد السوق الحرّ ومعارضة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، مع دعم مطلق للتجارة الحرّة والتنافس المفتوح.
وترتكز الليبرالية الاقتصادية على مبدأين أساسيين:
الأول هو حرية التملك، والثاني الحق في المنافسة الحرة.
فحرية التملك تعني الحق في حيازة الثروة واستثمارها بحرية، تعزيزاً لمبدأ الملكية الخاصة، في حين أن الحق في المنافسة يستدعي رفع القيود الحكومية وتحرير السوق من القوانين التي تكبح الأرباح أو تحدّ من المبادرات الفردية. ومن ثمّ، لا ترى الليبرالية للدولة دوراً سوى ضمان حرية المبادرة الاقتصادية وحمايتها قانوناً، لأن الملكية الخاصة في نظرها هي أحد مقدّسات المجتمع، والغاية من نشوء الدولة نفسها هي صونها وحمايتها.
تعود الجذور الفكرية لليبرالية الاقتصادية إلى أفكار الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنكليزي جون لوك (1632–1704)، ثم إلى الفيلسوف الأخلاقي وعالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث (1723–1790)، رائد الاقتصاد السياسي، ومؤلف نظرية المشاعر الأخلاقية (1759) وبحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها (1776).
غير أنّ التنظيرات الليبرالية لم تكن سوى تعبير فكري عن حركة اقتصادية بدأت فعلاً في القرن السابع عشر في إنكلترا، ثم في فرنسا والولايات المتحدة، قبل أن تمتد إلى ألمانيا وإيطاليا وسائر أوروبا. وهي ذاتها حركة الإنتاج الرأسمالي التي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر في ظل الثورة الصناعية الكبرى، حيث انتظمت وفق مبدأ المنافسة بين القوى الرأسمالية: شركات، وكارتيلات، وتروستات، ومصالح اقتصادية كبرى.
لقد بلغت تلك المنافسة حدَّ الصراع العنيف، ودَفعت بالقوى الرأسمالية إلى فتح الأسواق بالقوّة العسكرية، سواء في الداخل أو الخارج، لتحرير الأسعار من القيود وفرض قانون العرض والطلب. كما استدعت السيطرة على الأسواق الخارجية والبلدان البعيدة لتأمين المواد الخام الضرورية للصناعة الغربية، والبحث عن اليد العاملة الرخيصة، وإنشاء “مناطق حرّة” في الدول المستعمَرة أو التابعة.
هكذا أُعلن ميلاد الحقبة الكولونيالية في النظام الاقتصادي الليبرالي، وهي مرحلة استعمارية طويلة انتهت بظهور دراسات ما بعد الاستعمار التي تناولت الإرث الثقافي والسياسي للاستعمار والإمبريالية، محلّلةً التبعات البشرية لاستغلال السكان الأصليين وفرض الهيمنة على الشعوب وثقافاتها.
لقد أعاد الاستعمار إنتاج النظام الرأسمالي، وأخرجه من أزماته الناجمة عن ضيق الأسواق القومية وشحّ الموارد، ليسهم في دفعه نحو مرحلة جديدة من التوسّع والتحديث. غير أنّ احتدام المنافسة بين القوى الرأسمالية أدّى إلى تحوّل نوعي: إذ ألغت الشركات الكبرى منافسيها بالابتلاع والدمج القسري، فتكوّنت الكارتيلات والتروستات الضخمة، وانتقلت الرأسمالية من مرحلة المنافسة الحرّة إلى مرحلة الاحتكار.
بدأ هذا التحوّل في ثمانينيات القرن التاسع عشر مع اندماج رأس المال الصناعي ورأس المال المصرفي في بنية واحدة: رأس المال المالي. ومع اتساع البنوك والمصارف والمجمّعات الإنتاجية، تمّ تدشين عصر الرأسمالية المالية البنكية، الذي شكّل انتقالاً حاسماً من الرأسمالية التنافسية إلى الرأسمالية الاحتكارية، أي إلى الطور الإمبريالي بامتياز.
ولأنّ السمات الأساسية للإمبريالية هي تجاوز الحدود القومية والسعي إلى التمدّد الخارجي، فقد اتخذت شكلاً استعمارياً متزايداً، فكانت حقبة نهب المستعمرات ومقدّرات الشعوب في أوجها بين ثمانينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
لكنّ التزاحم والمنافسة بين الإمبرياليات الكبرى على الأسواق والمستعمرات ومناطق النفوذ أدّى إلى صراعات دامية انتهت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين كانتا التجسيد الأكبر لتلك الصراعات الاقتصادية المتوحّشة.
غير أنّ الاحتكار لم ينتهِ بانتهاء الاستعمار العسكري، بل استمرّ واتّسع في حقبة ما بعد الكولونيالية، من خلال أنماط التبعية الاقتصادية والسياسية. فلم تعد القوى الرأسمالية بحاجة إلى جيوش جرّارة، إذ نجحت خلال حقبة الاحتلال في رسملة الاقتصادات المحلية وربطها بالبنى والبنوك والشركات الغربية، لتظلّ مشدودة إليها بعلاقات تبعية وهيمنة مالية.
وهكذا تطوّر الاحتكار إلى مستوى أعلى في ظلّ العولمة، حيث نشأت مجموعات استثمارية وصناعية وبنكية عابرة للقارات، قطعت الطريق أمام أيّ منافسة حقيقية. وبذلك تحوّلت الليبرالية من فلسفة تدافع عن الحرية والمبادرة الفردية إلى ليبرالية متوحّشة ذات طابع دارويني، لا بقاء فيها إلاّ للأغنى والأقوى.
* عماد خالد رحمة – كاتب ومفكر عربي مقيم في برلين، يهتم بقضايا النهضة، والفكر النقدي، والعلاقة بين الوعي الجمعي والتحوّلات الثقافية في العالم العربي. يكتب بلغة تحليلية تتقاطع فيها الفلسفة مع الاجتماع والفكر الإنساني، باحثًا عن جذور الأزمات الحضارية وآفاق التغيير الممكن.







