في ظل الأزمة الخانقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني اليوم، لم تعد معاناته محصورة في حدود الاحتلال أو العدوان العسكري فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى أزمات داخلية متشابكة: انغلاق الأفق السياسي، وانعدام الدخل، وتراجع مقومات الحياة اليومية. واقعٌ يتجدد فيه الألم مع كل فجر، ويزداد فيه الشعور بالخذلان مع كل وعدٍ دولي يتبخر، وكل صمت عربي وإسلامي يطول.
وإذا أردنا أن نبحث بصدق في سبل الخروج من هذا النفق المظلم، فإن البداية لا بد أن تكون من الداخل، من قلب البيت الفلسطيني نفسه. فقبل أن نطالب الآخرين بالوقوف معنا، علينا أن نقف أولًا مع أنفسنا، أن نواجه الحقيقة كما هي، بلا تزييف ولا تجميل. فالحالة الفلسطينية الداخلية، التي نخرت فيها الانقسامات وتفككت فيها الروابط الوطنية، أصبحت اليوم أحد أهم أسباب ضعف الموقف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. لقد أدى الانقسام البغيض إلى تمزيق وحدة الصف، وتراجع الثقة المتبادلة بين القوى الوطنية، وتنامي خطاب الكراهية الذي تسللت منه قوى خارجية لتعبث بمصير هذا الشعب الصامد.
إن أخطر ما أصاب الجبهة الداخلية هو تحوّل الاختلاف السياسي إلى خصومة وطنية، والنقاش إلى معركة هوية. بدلاً من أن تتوحد البنادق نحو العدو، صارت تُرفع في وجه الأخ. وبدلاً من أن تتلاقى الجهود لبناء مشروع وطني جامع، أصبحت بعض الأطراف تبني لنفسها مشروعًا جزئيًا، تراه الخلاص الوحيد، بينما الحقيقة أن الجميع يغرق في نفس البحر.
وفي خضم هذا المشهد المأزوم، برزت ظاهرة أشد خطرًا على وحدة القرار الفلسطيني، وهي محاولات بعض القوى أو الأفراد القفز فوق المظلّة الشرعية التي يعترف لها العالم أجمع بتمثيل الشعب الفلسطيني. هذه المحاولات، التي تتغذى على الانقسام الداخلي وتستغل الفوضى السياسية، لا تخدم سوى الاحتلال الذي يجد في تشتت الصوت الفلسطيني مبررًا لطمس الحقوق وإنكار الشرعية. فالتنافس على التمثيل ليس تعبيرًا عن حيوية سياسية بقدر ما هو استنزاف للمكانة الوطنية، إذ لا يمكن لأمة تبحث عن حريتها أن تفرّط بوحدة قرارها وتمثيلها أمام العالم.
إن المظلة الشرعية للشعب الفلسطيني لم تكن مجرد إطار سياسي، بل كانت ثمرة عقود من النضال والتضحيات، ونتاج اعتراف عربي ودولي بمشروعية كفاحه. المساس بها اليوم أو تجاوزها يعني فتح الباب أمام فوضى سياسية تُضعف الموقف الفلسطيني في كل المحافل، وتمنح الاحتلال فرصة ذهبية لتكريس واقع التقسيم والتجزئة. من هنا، فإن التمسك بالشرعية الوطنية الجامعة هو شرط أساسي لأي مشروع وطني حقيقي يسعى للتحرر والاستقلال.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل حالة الوهن التي أصابت العمق العربي والإسلامي، والتي تراجعت فيها روح المسؤولية الجماعية تجاه فلسطين، وتقدمت فيها لغة المصالح الضيقة على حساب المبادئ الكبرى. لقد انشغلت الأمة بصراعاتها الداخلية، حتى صارت فلسطين بندًا هامشيًا في أجندات القمم، بعدما كانت قلب العروبة النابض ومحور الوحدة الجامعة.
لكن رغم هذا الواقع المؤلم، ما زال في الأمة ما يُستنهض، وفي الشعب ما يُعوَّل عليه. وما نحتاجه اليوم هو تكوين جبهة وطنية قوية تستعيد الثقة بين أبناء الشعب الواحد، وتعيد الاعتبار إلى روح الشراكة الوطنية والاجتماعية. جبهة تنطلق من مبدأ التكافل لا التناحر، ومن الإيمان بأن الوطن لا يُبنى إلا بتكاتف الجميع، مهما اختلفت توجهاتهم الفكرية والسياسية.
التكافل الوطني والاجتماعي ليس شعارًا عاطفيًا، بل هو حاجة وجودية في هذه المرحلة. هو منظومة من الفعل والتضامن تبدأ من أصغر بيت وتنتهي بأكبر مؤسسة. أن يمدّ القادر يده للضعيف، وأن تلتقي النخب الفكرية والسياسية على برنامج وطني مشترك يعيد بناء الثقة ويدعم صمود المواطن في وجه الجوع والحصار، هو الطريق الحقيقي نحو التحرر. لأن التحرير لا يبدأ من الميدان العسكري وحده، بل من تحصين الجبهة الداخلية وخلق شبكة أمان اجتماعي تعيد للناس قدرتهم على الصمود والثبات.
ومن هذا التكافل الداخلي، يمكن الانطلاق نحو استعادة العمق العربي والإسلامي، لا من موقع الاستجداء أو التبعية، بل من موقع الفعل والمبادرة. فالأمة التي أنجبت فلسطين لا تزال حية، لكنها تحتاج إلى من يوقظ ضميرها، إلى من يذكرها أن الدفاع عن القدس ليس واجبًا فلسطينيًا فقط، بل مسؤولية عربية وإسلامية وإنسانية.
إن الطريق نحو العمق العربي والإسلامي يمر أولاً من بوابة الوحدة الوطنية وتوحيد التمثيل والتكافل الاجتماعي. فحين يرى العالم أن الفلسطينيين متماسكين رغم الجراح، وأنهم متعاونون رغم الحصار، حينها فقط تُستعاد الثقة بهم، ويُعاد لهم حضورهم في وجدان الأمة.
قد تكون المرحلة قاسية، لكن الشعوب التي تنكسر لا تُهزم، والشعب الفلسطيني الذي صمد تحت القصف والحصار لا يمكن أن يُكسر بانقسام أو حصار داخلي. ما نحتاجه هو أن نؤمن بأن قوتنا في وحدتنا، وأن التكافل ليس صدقة، بل واجب وطني وديني، وركيزة من ركائز الصمود.
فمن رحم الجراح يمكن أن تولد القوة، ومن بين الركام يمكن أن تُبنى الجسور من جديد، جسور تمتد من الوطن إلى العمق العربي والإسلامي، تحمل رسالة مفادها أن فلسطين لا تموت، وأن شعبها لا يزال مؤمنًا بأن العروبة والإسلام عمقٌ وسند، وأن النصر، مهما تأخر، لا يُمنح إلا لمن يستحقه.
٠ كاتب وسياسي فلسطيني.
								
															







