من دمشق… سقط المشروع الإيراني

عالية منصور

أن أكتب مقالي هذا من دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في العالم، فلا بد من أن أذكر أن مئات آلاف السوريين دفعوا حياتهم ثمنا لهذه الأمر، لحريتنا جميعا، لحرية أن نفكر ونكتب دون خوف.

فتحية لأرواح من ماتوا، وعُذبوا وشُردوا كي نحيا وكي تعود سوريا إلى أبنائها وإلى محيطها العربي.

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، سقط “الأبد” في سوريا وهرب بشار الأسد. في الثامن من ديسمبر 2024 سقط مشروع إيران التوسعي في المنطقة بعد ما يقارب 45 عاما من إعلان طهران عن مشروع تصدير ثورتها، والذي لم يكن سوى مشروع احتلال للمنطقة بأوجه عديدة.

كانت سوريا حجر أساس في مشروع إيران وكانت نقطة الوصل الأهم بين طهران والمتوسط، كانت ممرا للسلاح ومصنعا للكبتاغون، ومنطلقا لتهديد دول الجوار والمنطقة.

وصار واضحا أن إيران لن ترضى بخسارتها بروح “رياضية”. خسرت هيمنتها على لبنان بسبب الحرب التي اندلعت بين “حزب الله” وإسرائيل، وخسرت أي فرصة لإحياء “حزب الله” ذراعها الأقوى والأقدم في العالم العربي والذي طالما استعمل ضد المصالح العربية، كقوة عسكرية تهدد لبنان والعالم العربي، فسوريا لم تعد ممرا للسلاح، ولا منطلقا لتجارة المخدرات لتمويل الإرهاب وعمليات إيران وأذرعها. وبات سلاح إيران لترد على خسائرها هو التهديد بالفتنة والحروب الأهلية.

جاء التهديد الأبرز على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي الذي قال خلال مشاركته في احتفالية دينية في طهران: “أتوقع أن يشهد المستقبل ظهور مجموعة شريفة وقوية في سوريا أيضا”، داعيا من سماهم “شباب سوريا الشجعان” لإسقاط الحكومة المؤقتة في سوريا، فحسب وصفه “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره. جامعته، مدرسته، منزله وحياته كلها غير آمنة، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن، وسيتغلب عليهم إن شاء الله”.

وسبق كلام خامنئي تحذير وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للمحتفلين بالنصر في سوريا “بالتريث في الحكم على الأحداث، فالتطورات المستقبلية كثيرة”. بينما أعلن محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني القوي، أن “المقاومة السورية ستُبعث من جديد في أقل من عام”. ولم يكد حبر هذه التصاريح يجف حتى ظهرت فيديوهات وبيانات لمجموعات وشخصية من النظام الساقط تتحدث باسم الطائفة العلوية. خطابات فتنوية وتحريضية تهدد بحرب أهلية وتطالب بالعفو العام عمن ارتكب المجازر والفظائع في سوريا خلال الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة وما سبق.

عفو عام بينما كانت أمهات المفقودين في السجون تبحث في قصاصات ورق مبعثرة في صيدنايا وغيرها عن خبر ما يدلهم كيف ومتى قُتل أبناؤهم، وأين هي جثامينهم؟

هذا التحريض وما رافقه من أعمال مخلة بالأمن لحقته فورا حملة أمنية من القيادة المؤقتة، لاجتثاث من كان طليقا حتى اللحظة من المجرمين الذين شاركوا بالإبادة، ولوقف أي خطاب تحريضي ينذر بحرب أهلية لا أحد يريدها سوى إيران.

تخللت الحملة الأمنية انتهاكات، مستنكرة ومدانة ويجب أن تتنبه القيادة العسكرية لها وتمنع تكرارها، ولكن كي لا يدع أحد المثالية فقد كان العالم أجمع يتوقع عمليات انتقام واسعة يقوم بها سوريون عانوا ما عانوه على يد شركائهم في الوطن، قتل وتجويع وتعذيب واغتصاب وإذلال ونهب، وهو ما لم يحصل كما كان العالم يتوقع رغم بعض الحوادث. ولذلك قلنا إن العدالة والمحاسبة هي الطريق الأمثل للحفاظ على السلم الأهلي، فلا ينزلق المجتمع نحو الثأر والانتقام، ويعطي فرصة للمتربصين وهم كثر وعلى رأسهم إيران الولي الفقيه، من زرع فتنة مذهبية توقف العملية الانتقالية قبل أن تبدأ لتعود طهران وتساوم على السلم مقابل مكاسب لها في سوريا ما بعد حقبة الأسدين.
خسارة إيران في سوريا أكبر من خسارة الأسد نفسه، فالأسد كان يرى في سوريا مزرعة ومكسبا يريد منها المال والسلطة ولو اضطره الأمر لقتل مليون شخص وتشريد نصف الشعب، وهو ما فعله، بينما ترى طهران أن خسارتها استراتيجية، وخسارة مشروعها الذي عملت له منذ عام 1979.
أما اليوم فالأمن هو حجر الأساس في بناء الدولة السورية، وجمع السلاح وإلقاء القبض على المرتكبين لأي طائفة انتموا، فمن دون أمن لا إمكانية لأي انتقال سياسي ولا لبناء دولة ديمقراطية. دولة لجميع السوريين، دفع الكثيرون على مدى عقود ثمنا للوصول إليها، وعمل لها واستشهد من أجلها مئات آلاف السوريين على مدى 13 عاما هو عمر الثورة السورية التي أسقطت بشار الأسد وحررت سوريا من الاحتلال الإيراني.

عن المجلة

شاهد أيضاً