يُجمع المؤرّخون على أنّ سقوط القسطنطينيّة عام (1453م) على يد العثمانيين لم يكن مجرّد حدث عسكريّ أنهى الإمبراطوريّة البيزنطيّة، بل نقطة تحوّل كبرى دشّنت الانتقال من “العصور الوسطى” إلى “العصر الحديث”. لقد انفتح الأوروبيّون على معارف اليونان والرومان بفضل العلماء البيزنطيّين المهاجرين إلى مدن إيطاليا، فانبثقت “النهضة” التي استيقظت فيها الفنون البصريّة، والرسم والنحت، والفكر الإنسانيّ، كما أشار ياكوب بوركهارت في كتابه حضارة النهضة في إيطاليا إلى أنّها “عودة الإنسان إلى ذاته بعد أن ظلّ أسير البنى اللاهوتيّة قروناً طويلة”. لكن هذا الانبعاث لم يخلُ من مظاهر الانفلات الأخلاقيّ التي جعلت النهضة تبدو “متهتّكة” في نظر بعض المفكرين المسيحيين المحافظين.
تطوّر هذا الحراك الفكريّ ليبلغ ذروته مع “الإصلاح الدينيّ” الذي أطلقه مارتن لوثر عام (1517م)، ناقداً الكنيسة الكاثوليكيّة وممارساتها في “رسائله التسعين والخمس”، فاتحاً الباب أمام قيام دول قوميّة حديثة، كما لاحظ ماكس فيبر الذي ربط بين الأخلاق البروتستانتيّة وصعود الرأسماليّة الحديثة. في موازاة ذلك، واجهت “الفلسفة الإسميّة” الفلسفة السكولائيّة (المدرسيّة) التي خلطت اللاهوت بالفلسفة الأرسطيّة، وبرز “المذهب الإنسانيّ” الذي جعل الإنسان محور الكون.
وجاء القرن السابع عشر ليحمل التحوّل العقليّ مع ديكارت وبيكون وسبينوزا، في ما سمّاه كانط لاحقاً “الخروج من القصور العقليّ”. وتبلورت مع القرن الثامن عشر أفكار “عصر الأنوار” على يد فلاسفة العقد الاجتماعي مثل لوك وهوبز وروسّو، وهي التي فجّرت الثورة الفرنسيّة (1789م) وأطلقت قيم الحريّة والمساواة والإخاء، بالتوازي مع الثورة الصناعيّة في إنكلترا (1784م) والثورة الصناعيّة الثانية (1870م) التي أدخلت الكهرباء في الإنتاج والمواصلات، لتتشكّل ملامح أوروبا الحديثة.
لقد تحرّرت الفلسفة الأوروبية من قبضة اللاهوت، وأخذت –كما يوضح ريتشارد شاخت في رواد الفلسفة الحديثة– تعالج قضايا الإنسان والمعرفة والواقع، رابطَةً الإبستمولوجيا بالميتافيزيقا في مقاربة سؤال الوجود والمعرفة.
_ مقاربة مع المسار الحضاري الإسلامي
إذا تأمّلنا المسار الأوروبي في ضوء التاريخ الإسلامي، نجد تشابهاً من حيث السياقات الكبرى، لكن باختلاف النتائج. فسقوط القسطنطينيّة تزامن تقريباً مع سقوط الأندلس (1492م)، حيث انطفأت آخر معاقل الإسلام في أوروبا، لكن بينما شكّل سقوط القسطنطينيّة بداية النهضة الأوروبيّة، مثّل سقوط الأندلس بداية انكفاء العالم الإسلامي على ذاته. لقد أدّى تدفق العلماء المسلمين والأندلسيين إلى المشرق إلى إثراء الحياة الثقافيّة، لكن لم يتطوّر ذلك إلى حركة “نهضة” مماثلة، بسبب عوامل متعدّدة، منها استحكام البنية السياسيّة التقليديّة وسيطرة النزعات المحافظة التي أعلت شأن النقل على العقل.
ومع أنّ العالم الإسلامي عرف محاولات إصلاحيّة –مثل اجتهادات ابن خلدون في الاجتماع، وتجديدات الإصلاحيّين العثمانيّين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده– إلا أنّها لم تبلغ مستوى التحوّل الجذريّ الذي شهده الغرب. لقد بقيت هذه المشاريع الإصلاحيّة في إطار التجديد الدينيّ أو الإصلاح السياسي الجزئيّ، دون أن تنتج “قطيعة معرفيّة” كبرى مع البنى التقليديّة كما فعلت النهضة الأوروبيّة.
ومن اللافت أنّ الفلاسفة المسلمين في القرون الوسطى –كابن رشد والفارابي وابن سينا– قد سبقوا الأوروبيّين في مزج العقل بالميتافيزيقا وإعمال النقد الفلسفي في النصوص الدينيّة، غير أنّ هذا المسار انقطع مع صعود تيارات الانغلاق التي حاصرت الفكر الفلسفي وأعلت الشروح اللاهوتيّة على البحث العقليّ الحرّ. ولو استمرّ هذا التيار الرشديّ النقديّ، لربّما شهدت الحضارة الإسلاميّة نهضة مشابهة أو سابقة.
بهذا المعنى، فإنّ المسار الأوروبي منذ سقوط القسطنطينيّة إلى عصر الأنوار كان رحلة تحرّر للعقل من وصاية اللاهوت والسلطة الإقطاعيّة، فيما ظلّ العالم الإسلامي يتأرجح بين إرثه الحضاريّ العميق ومحاولات تحديث متقطّعة لم ترقَ إلى مشروع معرفيّ شامل. وهنا تتجلّى الحاجة إلى قراءة نقديّة لتجارب النهضة في كلا السياقين، من أجل استلهام ما يصلح لاستعادة دور الفلسفة والعقل النقديّ في بناء حضارتنا المعاصرة.
